أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
استدامة

للتحول إلى الصافي الصفري، نمذِجوا البديل

تحليل سيناريوهات الشركات قد يساعد على وزن تكاليف التحول إلى انبعاثات كربون صافية صفريا– وكذلك مخاطر الحفاظ على الوضع الحالي.

قد تكون مجرد فكرة تحوُّل الشركات إلى انبعاثات كربونية صفرية صافية فكرةً مرعبة. ومن المرجح أن يستغرق تغيير العمليات لخفض الانبعاثات سنوات، والتحول إلى مصادر الطاقة البديلة في شركات تتوزع أعمالها عالمياً قد يكون مسعى معقداً. وعلى الرغم من أن بعض المبادرات ستوفر المال من خلال كفاءة استخدام الطاقة، لا بد من تنفيذ مبادرات أخرى ستكون باهظة التكاليف– ومخاطرة، ولاسيما إذا كانت تضع رهاناتها على تكنولوجيات جديدة أو نماذج أعمال جديدة. ومن دون ضغوط حقيقية من قِبل الجهات التنظيمية أو سعر كربون تحدده جهة خارجية– وأغلب الشركات الحالية لا تتعرض لأيٍّ من مثل هذه الضغوط– قد يصعب تطوير دراسة حالة مالية تقليدية.

وقد يكون من المغري إذن أن يحاول المديرون تأخير تحول مؤسستهم إلى الصافي الصفري حتى يصبح لديهم يقين أكبر– أي إلى أن يستخدموا تحليل السيناريوهات لتقييم التكاليف المحتملة لأسوأ بديل محتمل: عدم الاضطلاع بأي شيء. وعندما تقيم فرق الإدارة أعمالها في مقابل مستقبل حيث تكون لدى الحكومات والمنافسين والعملاء والمستثمرين خطط تحول، تدرك أن التكلفة الحقيقية للتحول إلى الانبعاثات الصافية الصفرية لا ينبغي مقارنتها بالوضع الحالي- الذي لن يعود له وجود بعد بضع سنوات- لكن بزيادة التكاليف والمخاطر التي ستواجه الشركة إذا لم تتخذ أي إجراء الآن. ويتحول انتباه القادة من مخاطر المناخ التي تؤثر في الأعمال إلى أجندة أكبر، تتضمن الالتزام بالتغيير والفرصة لتحقيق الازدهار في بيئة أعمال منخفضة الكربون.

تحليل ثلاثة سيناريوهات رئيسة وتحولات محتملة

تبدأ الشركات في الأغلب في استخدام تحليل السيناريوهات Scenario analysis لتستبق المخاطر، لكن هذه العملية قد تكشف أيضاً عن فرص غير بديهية في مستقبل صافٍ صفرياً. مثلاً اكتشفت شركة تعدين تعمل في قطاعات عالية الكربون، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي والفحم الحراري، أن الجهود الرامية إلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية بما لا يتجاوز 1.5 درجة سيليزية مقارنة بما كانت عليه قبل الثورة الصناعية، وفق أهداف اتفاقية باريس Paris Agreement، ستسفر في واقع الأمر عن أفضل نتيجة مالية لأعمالها على مدى السنوات الـ30 المقبلة. ففي هذا السيناريو، فإن الطلب المنخفض على هذه السلع سيقابله ارتفاع متزايد على المواد الأخرى التي تعدنها والضرورية للتحول إلى الطاقة النظيفة، مثل النيكل والنحاس المستخدمَين في البطاريات والكابلات. والواقع أن الانخفاض المتوقع في القطاعات الأكثر عرضة للتهديد، حتى في أكثر سيناريوهات التحول طموحاً، يقل إلى حد كبير عن المكاسب الضخمة التي ستتحقق من السلع التي تغذي التحول. وبالنسبة إلى البنوك، فإن نمذجة السيناريوهات من الممكن أن تسلط الضوء على القيمة المالية الأكبر والتأثير المناخي المترتب على التعامل مع عملاء مرتفعي الكربون، والمساعدة في تمويل تحولاتهم بدلاً من قطع العلاقات معهم من أجل الحصول على ميزانية ”بلا دين أو بدين قليل“ “Clean” balance sheet وتحويل المشكلة إلى شخص آخر.

لكن كيف يتسنى للمديرين أن يقيموا التكلفة الحقيقية لتأخير التحول إلى الصافي الصفري عندما يكون هناك عديد من المجهولات الضخمة؟ يمكن للتركيز على ثلاثة سيناريوهات رئيسة– أسوأ حالة Worst case وأفضل حالة Best case وحالة متوسطة Middle ground بين الاثنتين– أن يولِّد تبصرات (رؤى) عملية حول المجموعة الواسعة من النتائج المحتملة. ويفترض سيناريو الحالة الأسوأ عدم حدوث أي تغيير على مسارنا الحالي، وتجاوز العالم حد 1.5 درجة سيليزية في الاحترار العالمي، الأمر الذي قد يؤدي إلى كارثة مناخية. وتنظر أفضل حالة إلى ما قد يحدث إذا عملت الحكومات والشركات معاً، وفق اتفاقية باريس، من أجل الحد من الانبعاثات بالقدر الكافي بحلول العام 2030، حتى تظل الحياة طبيعية نسبياً في الأجل البعيد. وينمذج سيناريو الحالة المتوسطة في تأخير العمل على صعيد السياسات، مع ممارسة العمل كالمعتاد حتى العام 2030، الذي ستضطر البلدان والشركات عنده إلى خفض الانبعاثات بقدر كبير من أجل الحد من الكارثة المناخية.

وفي كل سيناريو، يتعين على المديرين ألا يأخذوا في الحسبان التأثير المحتمل لمخاطر المناخ على أعمالهم فحسب، بل أيضاً التكاليف المترتبة على التحول إلى نموذج تشغيلي ذي انبعاثات كربونية أقل. ويتعين عليهم أن يقيِّموا التأثير المحتمل للتحولات على عدة جبهات متداخلة: التغيرات في السياسات، واستراتيجيات المنافسين، وجذب العملاء.

التغيرات في السياسات

تعيد قلة من الشركات تصميم أعمالها بحيث تأخذ تسعير الكربون في الاعتبار بنحو صريح، ويرجع هذا في المقام الأول إلى أن الاتحاد الأوروبي وبعض الاقتصادات الأخرى فقط تفرض ضرائب على الكربون. (ينظر عدد متزايد من الشركات في تطبيق نظام ”ظل“ يحسب أسعار الكربون التقريبية داخلياً، وذلك لجعل تأثيرات الانبعاثات في الاقتصاد الأساسي أكثر شفافية). وفي الوقت الحالي، تقتصر هذه الضرائب على الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة والتي تتسم بالانبعاثات العالية، وتسعير الكربون أضعف من أن يشكل رادعاً فاعلاً. لكن تكاليف التعويض عن الانبعاثات الكربونية التي تطلقها الشركات قد تتضاعف إلى 10 أضعاف على مدى العقد المقبل، إلى ما بين 20 و50 دولاراً للطن المتري من ثاني أكسيد الكربون أو حتى أكثر، مع تبني أعداد متزايدة من الشركات لمستهدفات الصافي الصفري، وفق بعض التقديرات.

وإجراء اختبار الإجهاد Stress-testing لمعرفة كيف قد تنجح أي شركة في مستقبل بديل حيث تقفز أسعار الكربون أو تصبح الانبعاثات الكربونية غير مقبولة اجتماعياً أو قانونياً أن يوضح التكاليف المحتملة للتقاعس عن العمل. وأحد طرق الاضطلاع بذلك هو دمج تكاليف كربون ”الظل“ مع التمويل لتقييم القرارات الاستثمارية. ومن شأن تفحُّص مدى تعرُّض الشركة المستهدفة لتغيرات تسعير الكربون المحتملة أن يمكن المستثمر المحتمل من تقييم ربحية المشروعات والاستراتيجيات في المستقبل بنحو أفضل. كذلك يساعد أيضاً على تعزيز ثقافة الحد من الانبعاثات الكربونية بنمط مستمر، حتى في غياب إطار تنظيمي ملائم.

ومن الأهمية بمكان أن نمذجة السيناريوهات لكيفية تأثير التغيرات في سياسات تغير المناخ وإزالة الكربون في استراتيجيات المنافسين. وتولد السياسات الحكومية على نحو متزايد مسائل حياة وموت لعديد من الشركات التي تفشل في الإعداد لعالم الصافي الصفري. وحددت الولايات المتحدة مستهدفاً Target يتمثل في أن تكون نصف السيارات المبيعة في الولايات المتحدة كهربائية بحلول العام 2030، وحظرت المملكة المتحدة بيع سيارات جديدة تعمل بالغاز والديزل بعد العام 2030. ومن المرجح اتخاذ مزيد من الإجراءات التنظيمية في قطاعات أخرى مرتفعة الكربون، لتقييد الإنتاج (مثل التخلص التدريجي من محطات الفحم) أو الطلب (مثل التخلص التدريجي من الغلايات الغازية)، إذا كان لنا أن نحقق مستهدفات الصافي الصفري الحكومية.

استراتيجيات المنافسين

الشركات التي تعمل حالياً وفقاً لمتطلبات المناخ لا تحركها الضغوط التنظيمية ذاتها (لأنها لم تعد قوية بالقدر الكافي لتغيير نماذج الأعمال Business models) بقدر ما تفعل توقعات حدوث هذا الضغط والحاجة إلى التموضع بنمط تنافسي قبل حدوثه. كذلك لدى شركات السيارات التي استثمرت في تطوير السيارات الكهربائية ميزة كبيرة على منافسيها إذ انطلقت مبيعات المركبات الكهربائية. أما شركات المرافق العامة Utilities التي تتمتع بمحافظ أكثر تنوعاً وتشمل طاقة الرياح والطاقة الشمسية فإنها في وضع يسمح لها بالنمو، في حين أن تلك التي تتمسك بتوليد الطاقة من الوقود الأحفوري ستضطر إلى التكيف أو المجازفة بالانقراض.

ويمكن أن تشكل استراتيجيات المنافسين تهديداً، مما يؤدي إلى الخوف من التخلف عن الركب. وقد تشكل أيضاً فرصاً لتوليد التضامن بين الشركات المطلوبة من أجل تحمل التكاليف والمخاطر التي ينطوي عليها التحول إلى الصافي الصفري قبل أن تضطر إلى الاضطلاع بذلك. وتبدو سيناريوهات المستقبل أكثر جاذبية عندما تتحمل بلدان أخرى في هذا القطاع الأعباء نفسها. فقد وصف القادة في إحدى الشركات الذين قابلناهم ”ستة أشهر مظلمة“ عندما تعهدوا بالتزامات في التعامل مع المناخ قبل أقرانهم، لكنهم لاحظوا الارتياح الذي جاء عندما حذا منافسوهم الكبار حذوهم.

جذب العملاء

حالياً، وعلى الرغم من الاهتمام الواسع النطاق بمسألة تغير المناخ والقلق إزاء هذه المخاوف، ليس لدى العملاء إلا قليل من الجذب (الثقل) التجاري Commercial pull. إن حالة العمل المستندة إلى طلب العملاء والمؤطرة في سوق اليوم تبدو توقُّعية إلى حد كبير وقد تكون أقل جاذبية من الوضع الحالي. لكن المقارنة بالمستقبل البديل، وليس بما يحدث حالياً، ترسم صورة مختلفة. والأسباب التي تدفعنا إلى الاعتقاد أن جذب العملاء من المرجح أن ينمو ليصبح مؤثراً.

الآن بدأ العملاء من الشركات بالفعل في التحول إلى الصافي الصفري. فيبحث مصنعو سيارات في شراء الفولاذ الصافي صفرياً لمركباتهم، في حين يبحث صانعو الصلب عن خامات الحديد التي تُنتج انبعاثات أقل في فرن الصهر.

وأصبحت علامات الاهتمام المتزايد بالحلول التجارية للتخلص من الكربون واضحة بالفعل، مع بدء العملاء من الشركات في التحول إلى الصافي الصفري. ويظهر اهتمام العملاء عبر سلسلة القيمة Value chain بكاملها: فصانعو السيارات يتطلعون إلى شراء الصلب الصافي صفرياً لمركباتهم، وذلك مع تحول انتباه العالم للسمات المناخية للمواد بمجرد التخلص من انبعاثات العوادم في حركة الانتقال إلى المركبات الكهربائية. وفي المقابل يبحث مصنعو الصلب عن خامات الحديد التي تُنتج انبعاثات أقل في فرن الصهر– وعن مزيد من الخردة الفولاذية.

وينتشر اهتمام العملاء أيضاً من الجهات المؤسسية إلى الشركات الصغيرة من خلال متطلبات المشتريات التي توجهها بعض المؤسسات حالياً عبر سلاسل التوريد الخاصة بها. وسيصل إلى المستهلكين في نهاية المطاف، مع تعلُّم الشركات كيف تترجم الاهتمام الذي يبديه الناس بالفعل في مجال تغير المناخ إلى قيمة تجارية.

والحافز لفك هذا ”الكود“ مرتفع. وبالفعل ترتبط الدرجة التي يشعر بها الناس بالارتباط بعلامة تجارية ارتباطاً وثيقاً بالجهود التي يعتقدون أنها تبذلها في التعامل مع تغير المناخ، حتى لو لم يعرفوا في واقع الأمر ما الجهود التي تبذلها الشركة. لقد عثرنا على علامة تجارية واحدة فقط من أصل 100 علامة تجارية قال معظم عملائها إنهم يعرفون ما تفعله العلامة التجارية. لكن ينبغي للشركات ألا تراهن على افتقار المستهلكين إلى الوعي، بل يجب أن تثابر على التعامل مع السيناريوهات المحتملة كلها في المستقبل.

المستقبل الصافي صفرياً

نجح المديرون في تحديد خيارات جديدة عن طريق وضع نماذج للمستقبل البديل باستخدام التخطيط للسيناريوهات للنظر إلى ما هو أبعد من أوضاعهم الحالية، بما في ذلك الأحداث غير المؤكدة والمضطربة. ومع تزايد استخدام العالم للمتبقي من ميزانية الكربون Carbon budget، فإن تقييم السيناريوهات المختلفة المرتبطة بالمناخ، والتي تتضمن تحولات محتملة في السياسات، واستراتيجيات المنافسين، وتفضيلات العملاء ستساعد المديرين على تقييم المخاطر والفرص بنحو أفضل، وكذلك تقييم النتائج المحتملة لتحويل أعمالهم نحو الصافي الصفري، وتجنب فخ اختيار الوضع الحالي الذي قد يكون زائلاً. ومن الممكن أن يساعد تحليل السيناريوهات العالم على خفض الانبعاثات الكربونية إلى النصف بحلول العام 2030 من أجل تحقيق أهدافِ اتفاقية باريس والتوصل إلى مستقبل صافٍ صفرياً بوجهٍ عام.

سيمون غلين Simon Glynn

سيمون غلين Simon Glynn

شريك وقائد مشارك في مجال المناخ والاستدامة لدى أوليفر وايمان Oliver Wyman.

سيمون كوبر

سيمون كوبر

شريك وقائد في مجال المناخ والاستدامة في منتدى أوليفر وايمان Oliver Wyman Forum. للتعليق على هذا الموضوع: https://sloanreview.mit.edu/x/63310.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى