أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
استراتيجية البيانات

احتكار الأقلية للبيانات قد يخنق الابتكار

تتحكم المنصات الرقمية الرائدة في الوصول إلى حصة متزايدة من بيانات العالم. وإليكم السببَ الذي يجعلنا في حاجة إلى سياسات قادرة على توفير فرص متكافئة.

الحدود

قيادة الزعزعة
في الأعمال العريقة

ما يخسرُه البشر عندما نسمح
للذكاء الاصطناعي باتخاذ القرار

لا يمكنكم ملء الوظائف
الشاغرة؟ فككوها

للتحول إلى الصافي الصفري،
نمذِجوا البديل

كان جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter يشعر بقلق عميق إزاء الابتكار. فقد دافع عنه الاقتصادي الشهير، الذي صاغ مصطلح التدمير الخلاق Creative destruction، ومناصر ريادة الأعمال Entrepreneurship باعتبارها محركاً للنمو الاقتصادي، لكنه خشي من افتقار الأطراف الفاعلة الصغيرة إلى مورد أساسي لازم لتنفيذ أفكارهم المتقدمة: رأس المال Capital. ومن حسن الحظ أنه كان مخطئاً كما تبين فيما بعد. فمنذ خمسينات القرن العشرين، عملت منظومة إيكولوجية مزدهرة من ”المستثمرين الملائكة“ Angel investors وأصحاب رأس المال الاستثماري Venture capitalists على تزويد الشركات الناشئة بالقدر الكافي من المال لكي تغير أفكارُها العالَم.

لكن عصر البيانات كان سبباً في إحياء مخاوف شومبيتر من إمكانية منع المبتكرين من الوصول إلى الموارد التي يحتاجون إليها. فمع اكتساب شركات التكنولوجيا الكبرى مزيداً من القوة بفضل كنوز البيانات الهائلة التي جمعتها المنصات Platforms الرئيسة، وإذ يصبح الابتكار موجهاً بالبيانات بنحو متزايد، قد يجد رواد الأعمال والشركات صعوبة في اغتنام فرص جديدة. فإبقاء محرك الابتكار هادراً سيتطلب الوصول ليس فقط إلى رأس المال، بل أيضاً إلى البيانات.

بالنسبة إلى عديد من المبتكرين الذين يستغلون التكنولوجيات الرقمية– ولاسيما الذكاء الاصطناعي AI وتعلُّم الآلة Machine learning– يجب أن تُقرَن الأفكار الرائعة بالبيانات ذات الصلة لإنشاء منتج قابل للتطبيق. ومن دون توافر بيانات التدريب المناسبة، ستظل المركبات الذاتية القيادة الآمنة والموثوق بها مجرد حلم. وينطبق الشيء نفسه على التشخيصات الطبية المستندة إلى الذكاء الاصطناعي أو أنظمة الصيانة التوقعية Predictive maintenance systems. فنحن في حاجة إلى كميات كبيرة من البيانات لتطوير التعرف على الصوت والصورة، إضافةً إلى حالات الاستخدام مثل الكشف عن الاحتيال، والتوصية بالمنتجات، وكيفية تطَوِّي البروتينات Protein folding. والواقع أن قدرة فكرة رائعة على إحداث ”تأثير ضئيل في الكون“ (على حد تعبير ستيف جوبز Steve Jobs)، أو على الأقل تحويلها إلى منتج ناجح، تعتمد بنحو متزايد على القدرة على الوصول إلى البيانات Access to data.

وفي حين أن الأفكار الرائعة يمكن أن تنبع في أي مكان، فإن الوصول إلى البيانات ليس متاحاً للجميع بالتساوي. وحالياً تتمتع المجموعة التي نشير إليها باسم الشركات التكنولوجية الكبرى Big Tech– غوغل/ألفابت Google/Alphabet وأمازون Amazon وفيسبوك/ميتا Facebook/Meta وأبل Apple ومايكروسوفت Microsoft– بقدرة أكبر بكثير على جمع البيانات مقارنةً بالشركات الناشئة والمنافسين الأصغر حجماً. وحتى الشركات الكبيرة في قطاعات أخرى لا تملك في كثير من الأحيان سوى قدرة محدودة على الوصول إلى البيانات ذات الصلة.

ومع الافتقار إلى القدرة على الوصول إلى البيانات، لا يمكن للمنافسين المحتملين الصغار إلا أن يأملوا أن تشتريهم شركة تكنولوجية كبرى– وهذه هي على وجه التحديد الديناميكية التي شهدها وادي السليكون على مدى السنوات الـ15 الماضية. وأظهر تحليل أجراه مارك ليملي Mark Lemley وأندرو ماكريري من كلية ستانفورد للقانون Stanford Law School أن أكثر الشركات الناشئة نجاحاً في وادي السليكون اختارت مع بداية القرن أن تطرح أسهماً طرحاً عاماً أولياً، في حين اشتُرِيت الشركات الأكبر بحلول العام 2010 من قِبل الشركات القائمة Incumbents.

ويتحول الوصول إلى البيانات ميزةً استراتيجيةً رئيسة. وبالنسبة إلى عديد من المؤسسات سيكون هذا هو أهم عقبة وحيدة تواجهها في مجال الموارد في السنوات المقبلة. فمعالجة الوصول إلى البيانات على مستوى الشركة أمر حاسم بقدر ما يشكل تحدياً.

لكن ما هو على المحك أكثر من ذلك بكثير: إن الافتقار إلى الوصول إلى البيانات لا يؤدي إلى أسواق أكثر تركيزاً فحسب؛ بل مع تركيز البيانات في أيدي قلة من الناس يَصعب على المجتمع أن يواجه التحديات الكبيرة التي نواجهها. نحن في حاجة إلى استجابة على صعيد السياسات.

حتى الآن كانت المناقشات الدائرة حول كيفية تنظيم شركات التكنولوجيا الكبرى تدرس تركيز السوق Market concentration والقوة الاحتكارية Monopoly power. وتشمل الحلول تفكيك شركات المنصات الكبيرة (كما يقترح مستشار البيت الأبيض للتكنولوجيا والمنافسة تيم وو Tim Wu)، والتعامل معها بوصفها ناقلات عامة Common carriers (كما جادلت لينا خان Lina Khan رئيسة لجنة التجارة الفِدرالية Federal Trade Commission). وتستند هذه الإجراءات الصارمة إلى حالات سابقة تتعلق بالتعامل مع الاحتكارات المهيمنة، مثل ستاندرد أويل Standard Oil وإيه تي أند تي AT&T. لكنها لا تناسب كل ما نواجهه حالياً.

فالحلول التقليدية لمكافحة الاحتكار مثل هذه لا تعالج مصدر القوة التنافسية التي تتمتع بها الشركات التكنولوجية الكبرى. وعلى النقيض من مايكروسوفت Microsoft في أثناء حروب المتصفحات Browser wars قبل ربع قرن، لا تهيمن شركات المنصات العملاقة في أغلب الأحيان لأنها تربط بنحو غير قانوني بين خدمات متعددة. بل هي ناجحة لأن قدرتها الحصرية على الوصول إلى أكوام ضخمة من البيانات القيمة تُتَرجم إلى ميزة تنافسية Competitive advantage.

فتفكيكها سيمحو البلايين من الدولارات من القيمة Value في حين لا يساعد ذلك الشركات الناشئة Startups والشركات المنافسة الأصغر حجماً في الوصول إلى الموارد التي تحتاج إليها. وكما توضح حالة إيه تي أند تي، يعني تفكيك الاحتكارات من دون معالجة ديناميكية التركيز الأساسية أن المشكلة ستنشأ مرة أخرى.

كما أن تصنيف شركات التكنولوجيا الكبرى باعتبارها ناقلات عامة وتحويلها إلى مرافق عامة Public utilities بحكم الأمر الواقع لا يسهِّل الابتكار أيضاً. فذلك قد يجبر الشركات الكبرى المزودة للمنصات على قبول أي عميل، بل تتحكم في الرسوم التي يمكنها أن تتقاضاها نظير ذلك. لكنه يترك للشركات المهيمنة سيطرة حصرية على كنوز بياناتها في حين يحد من قدرة الآخرين على الابتكار. والأسوأ من هذا أن التعامل معها باعتبارها ناقلات عامة يعزز موقفها القوي في السوق ولا يعطيها أي حافز لدفع عجلة الابتكار.

لعل النهج الأفضل بكثير هو ضمان قدرة عديد من الأطراف الفاعلة على الابتكار، من خلال منحها القدرة على الوصول إلى بيانات شركات المنصات.

لعل النهج الأفضل بكثير هو ضمان قدرة عديد من الأطراف الفاعلة على الابتكار، من خلال منحها القدرة على الوصول إلى بيانات شركات المنصات. وخلافاً للضريبة لا يسلب تفويض الوصول Access mandate إلى البيانات الملكية. ويمكن لشركات التكنولوجيا الكبرى الاستمرار في استخدام البيانات المتوافرة لديها. لكنه يضمن تمكين شركات أخرى من الوصول إلى البيانات لتحويل أفكارها إلى منتجات وخدمات جديدة مبتكرة. وهذا فاعل اقتصادياً، لأنه لا يمكن لأي شركة أن تستخرج كل القيمة من البيانات التي لديها: ستكون لدى شركات أخرى أفكار مختلفة حول كيفية استخدام البيانات لإنشاء قيمة إضافية. وبنحوٍ غير متناسب يساعد الوصول إلى كنوز كبيرة من البيانات المنافسين الأصغر. لكنْ خلافاً لنظامٍ للناقلات العامة، لا يعيد ذلك توزيع الأموال على الشركات من خلال تحديد الرسوم التي يمكن أن تتقاضاها المنصات؛ بل يحفزها على الإبداع– وهذا على وجه التحديد هو المطلوب، من منظور الاقتصاد الكلي.

ولكن، لن يشمل تفويض الوصول بيانات الأسرار Trade secrets التجارية. ولن يجبر الشركات التكنولوجية الكبيرة على مشاركة نتائج تحليل البيانات، بل مجرد البيانات ”الخام“ Raw التي جمعتها هذه الشركات. ولن يمتد إلى المعلومات الشخصية التي تخضع لتشريعات حماية الخصوصية Privacy regulations؛ وستُمحى المعلومات الشخصية من هذه البيانات أولاً.

ووجدتْ دراسات عديدة أنه في أمريكا الشمالية وأوروبا لا يُستخدَم معظم البيانات المجموعة. وهذا يشير إلى أننا لا نحتاج إلى الحوافز لجمع البيانات، بل إلى مزيد من الاستفادة منها. ولأن تفويض الوصول إلى البيانات لا يصادر البيانات من الشركات التكنولوجية الكبرى، بل لا يزال لدى شركات المنصات حافز لجمع البيانات– حتى لو كان عليها مشاركتها مع شركات أخرى.

ويعمل واضعو السياسات في مختلف أنحاء العالم، ولاسيما في أوروبا، على إنشاء تفويضات كهذه للوصول إلى البيانات. والواقع أن حزب الديموقراطيين الاجتماعيين الحاكم في ألمانيا لديه نهج شامل في بيانهم الحزبي، فيتصورون اقتصاداً حيث البيانات وفيرة ويسهل الوصول إليها من قِبل الشركات كلها. ولن يغطي تفويضهم المنصات السائدة على الإنترنت فحسب، بل يغطي أيضاً الشركات كلها التي تتجاوز عتبة معينة من الحجم وتحتفظ بقدر معين من البيانات. وسيكون التفويض تقدمياً Progressive من حيث إن الشركات الكبيرة يجب أن توفر إمكانية الوصول إلى مزيد من بياناتها. كذلك يجري النظر في تشريعات من تفويضات الوصول إلى قطاعات محددة في المملكة المتحدة (شركات المنصات العملاقة)، وفرنسا (النقل العام والتأمين)، وهولندا.

وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي تتضمَّن مجموعة من الإجراءات المقترحة تفويضات تتعلق بالوصول إلى البيانات في حالات محددة (أسواق مركزة جداً، مثل التجارة الإلكترونية على المنصات) وقطاعات محددة. وتعمل المفوضية الأوروبية أيضاً على وضع إطار تشريعي شامل لتسهيل تبادل البيانات من خلال إنشاء ما تسميه مساحات البيانات الأوروبية European data spaces. وإن يكن من السابق للأوان أن نتكهن بالإجراءات التي ستُفعَّل، فمن الواضح أن تحسين القدرة على الوصول إلى البيانات أصبح هدفاً لواضعي السياسات. ولا تقتصر تفويضات الوصول على أوروبا، ولا هي بالجديدة أو غير المسبوقة. فقبل 70 سنة تقريباً، أجبرت الحكومة الأمريكية مختبرات بل Bell Labs على منح المنافسين والشركات الناشئة إمكانية الوصول إلى تكنولوجياتها الحاصلة على براءة اختراع، بما في ذلك تلك الخاصة بأشباه الموصلات Semiconductors. وكان ذلك هو البذرة الفكرية التي مكنت رحلة الإبداع المذهلة لوادي السليكون Silicon Valley. وقبل أكثر من عقد، أجبرت وزارة العدل الأمريكية غوغل Google على فتح الوصول إلى البيانات عندما استحوذت على الشركة العملاقة في مجال السفر آي تي إيه سوفتوير ITA Software.

يُعَد الوصول إلى البيانات هو الترياق لكابوس شومبيتر الخاص بعالم محروم من الابتكار بفعل تركيز الموارد في أيدي أقلية قوية. فهو يعزز المنافسة، ويتيح أفكاراً عظيمة، ويضمن التقدم الاقتصادي والاجتماعي المستدام. فالتفويض بذلك من شأنه أن يحقق أرباحاً غير مسبوقة على صعيد البيانات.

فـيكتور ماير-شونبرغر Viktor Mayer-Schönberger

فـيكتور ماير-شونبرغر Viktor Mayer-Schönberger

(@viktor_ms) أستاذ إدارة الإنترنت والتنظيم في جامعة أكسفورد University of Oxford.

توماس رامجي Thomas Ramge

توماس رامجي Thomas Ramge

(@thomasramge) ألف أكثر من 15 كتاباً عن التكنولوجيا والإبداع واتخاذ القرار. وهما المؤلفان المشاركان للكتاب الجديد قواعد الوصول: تحرير البيانات من الشركات التكنولوجية الكبرى من أجل مستقبل أفضل Access Rules: Freeing Data From Big Tech for a Better Future (منشورات: University of California Press، 2022). للتعليق على هذا الموضوع: https://sloanreview.mit.edu/x/63324.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى