أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
اتخاذ القراراخترنا لكقضايا

فهم مستقبل ما بعد الجائحة

بعد مرور أكثر من سنتين منذ انتشار الجائحة، أصبحنا الآن في لحظة يحاول فيها كل من القادة والموظفين فهم كيف غيرتهم هذه التجربة ويتخيلون ماذا قد يحدث بعد ذلك. في ندوة عبر الإنترنت قدتُها في أوائل فبراير مع 250 شخصاً من أكثر من 100 شركة حول العالم، أعرب عديد من القادة عن شعورهم بـ”حيرة وتمزق“ بين الحقائق اليقينية الماضية ومجهولات المستقبل.

وظهرت ثلاث رسائل بصوت عال وواضح. الأولى هي أن الأفراد في هذا الوقت من تكوين الفهم يتطلعون الآن إلى الداخل– يعملون من خلال تأثير ما تغير من عاداتهم، وشبكاتهم، ومهاراتهم، ويبدؤون في تخيل مسارات حياة أخرى وذواتهم المحتملة.

والرسالة الثانية هي أن القادة والمؤسسات التي يديرونها تتطلع إلى الخارج أكثر من المعتاد– يحللون كيفية تغير أسواق المواهب وما يضطلع به منافسوهم. وهذا من شأنه أن ينشئ الزخم والقوة الدافعة للتغيير، لكنه ينشئ أيضاً الإحباط والقلق، نظراً إلى التأخر المؤسسي. ويخشى القادة أن يؤدي القصور الذاتي إلى تراجع شركاتهم.

والرسالة الثالثة هي أنه مع تزايد زخم التغيير هذا، فإن الأفراد والمؤسسات الذين يتصرفون الآن هم الذين سيمهدون الطريق ويصبحون قدوة للجميع.

الانقسام الداخلي/الخارجي
أذهلني مدى عمق استغلال الأفراد لخبراتهم على مدى العامين الماضيين واستخدامها للنظر إلى الداخل.

خذوا جون، قائد فريق في إحدى الشركات المالية التي كنت أدرسها. هو ليس وحده في إخباري بمثل قوله: “أشعر كأنني بدأت في تغيير من أكون. لم أعد أنتقل إلى المكتب كل يوم، وأمضي وقتاً أقل مع زملائي ووقتاً أكثر مع جيراني، وفاجأت نفسي بمهاراتي الرقمية– بل إن الفريق بالكامل يستخدم أدوات تعاونية افتراضية بطرق جديدة”.

مثل عديد من الأشخاص الذين تحدثت إليهم، وجد جون أنه إلى جانب الجديد من إجراءاته الروتينية، وصلاحياته، وكفاءاته، جاءت التغييرات في فهمه للهوية– فهمه من هو والحياة البديلة المتاحة له. مثلاً، أخبرني جون أنه يتناول الغداء بانتظام الآن مع أحد الجيران الذي يدير شركة صغيرة. وعلى مدار هذا الغداء، يتحدثان عن مشروع جانبي يمكنهما الاضطلاع به معاً على نحو من شأنه أن يوسع من مهارات بدء الأعمال لدى جون. وهو يستكشف مبدئياً إمكانية أن يصبح رائد أعمال.

ومن ناحية أخرى، تنظر عديد من المؤسسات إلى الداخل والخارج. هي تتصارع مع ما تحتاج إلى الاضطلاع به بنحو مختلف من أجل اجتذاب الأشخاص الموهوبين والاحتفاظ بهم، وما ينبغي أن تكون وجهة نظرهم حول العمل. لكن عديد منهم يخبرونني أنهم يشعرون أيضاً بالقلق العميق إزاء أنواع السوابق التي يحددها منافسوهم.

رواد اجتماعيون ومؤسسات سباقة يفتتحون طريقاً إلى الأمام
إن المؤسسات محقة في شعورها بعدم الارتياح إذا لم تكن متعمقة تماماً بعد في تجاربها الخاصة. في تفاعلاتي مع القادة والشركات في الأشهر الأخيرة، سمعت الحديث عن مجموعة واسعة من التجارب التي لفتت انتباههم وتتضمن مكان عمل الأشخاص، ووقت عمل الأشخاص، والعثور على أشخاص للعمل.

توقعوا أن تأتي التحركات التالية من كل من الرواد الاجتماعيين والمؤسسات السباقة. هم أشخاص وأماكن يستجيبون لهذا الضغط الآن بالابتكار.

ومن بين الرواد الاجتماعيين الأفراد أولئك الذين يعملون مدة أربعة أيام في الأسبوع، ويتحولون من وظيفة عالية القدرة إلى العمل لمصلحة مؤسسة اجتماعية، أو الذين يعملون بدوام جزئي لتمضية مزيد من الوقت مع أطفالهم، أو الذين يتخلون عن وظائفهم لبدء أعمالهم الخاصة، أو الذين يأخذون إجازةً سنةً لاستكشاف العالم. ومن خلال اتخاذ هذه الخيارات، يصبحون نماذج تُحتذَى لأشخاص مثل جون– أولئك المعدين للتغيير لكنهم غير متأكدين بشأن ما ينبغي لهم أن يضطلعوا به بعد.

يظهر الرواد الاجتماعيون كيف تبدو هذه المسارات البديلة للحياة والذوات المحتملة في واقع الأمر. ومع مشاركة مزيد من الناس (ولاسيما أولئك الذين يتمتعون بالموهبة العالية) في هذه الرحلة الداخلية، هم يعملون بنحو جماعي على إنشاء ضغوط حقيقية لإحداث تغيير مؤسسي. ويطلب البعض مزيداً من المرونة عندما يتعلق الأمر بوقت عملهم أو مكانه حتى يتمكنوا من إنشاء مسار عمل جديد بنمط استباقي. ويستقيل آخرون ببساطة– الأمر الذي يدفع الفرق التنفيذية إلى التساؤل: ”في ماذا أخطأنا؟“

وبالتوازي مع ذلك، يلاقي قادة المؤسسات السباقة هذه اللحظة بأساليب ملهمة. ومن بينها هذه الأمثلة من المملكة المتحدة للشركات والسياسات الجديدة:

● يو تيليكوم Yo Telecom، وهاتش Hutch، وإم بي إل سيمينارز MBL Seminars من بين عديد من الشركات المشاركة في تجربة مدتها ستة أشهر لأسبوع عمل مدته أربعة أيام تحت إشراف أكاديميين من جامعتي أوكسفورد وكيمبريدج Oxford and Cambridge universities وكلية بوسطن Boston College.

● شجعت ديلويت Deloitte موظفيها في المملكة المتحدة الذين يبلغ عددهم 20,000 موظف على اتخاذ القرار بشأن ”متى وأين وكيف يعملون“. وكما قال المدير التنفيذي للمنطقة ريتشارد هيوستن Richard Houston: ”نسمح لموظفينا بأن يختاروا إلى أين يحتاجون أن يكونوا للاضطلاع بأفضل عمل، بما يوازن بين مسؤولياتهم المهنية والشخصية“.

● بدأت ساغا Saga، وهي شركة تأمين تركز على خدمة احتياجات الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 50 سنة، في السماح للموظفين بأخذ أسبوع إجازة من العمل، بأجر، للاحتفال بميلاد حفيد.

● أضافت لينكلايترز Linklaters، وهي شركة قانونية في المملكة المتحدة، إجازة مدتها أربعة أسابيع مرة كل ثلاث سنوات إلى قائمة مزايا الموظفين.

هذه الأشكال من مبادرات الشركات، مقترنة بالإجراءات الفردية للرواد الاجتماعيين، ستشكل الحدود الخارجية لما هو ممكن. وستوضح أمثلتها مسارات جديدة للعمل والمعيشة. وفي اعتقادي أن أي مستشار شاب يشعر بالإحباط إزاء الأمر الذي يقضي بأن ”كل شخص لا بد من أن يعود إلى المكتب كل يوم“ سينظر إلى ما تقدمه ديلويت ويتساءل عما إذا كان يعمل في الشركة المناسبة.

عديد من القادة عالقون بين تخيل ما هو ممكن والقلق من أن تؤثر ترتيبات العمل الأكثر مرونة سلباً في الأداء. هم يتعاملون مع ما إذا كان التغيير ضروريـاً أو ممكناً.

 

أعترف بأن هذا ليس مباشراً. الآن أصبح عديد من القادة عالقين بين مصدرين للتوتر: توتر التنوير Tension of enlightenment، حيث بات في وسعهم أن يتخيلوا ما هو ممكن، وتوتر الإنكار Tension of denial، إذ يشعرون بالقلق من أن تؤثر ترتيبات العمل الأكثر مرونة سلباً في الأداء. هم يتعاملون مع ما إذا كان التغيير ضرورياً أو ممكناً. وهذه توترات مشروعة تتفاقم فقط بسبب الشعور بالإرهاق الذي يشعر به كثر من الناس.

لكن الفرصة سانحة الآن أمام القادة لتخفيف هذا التوتر. ويمكنهم الاضطلاع بذلك من خلال الانفتاح على الاستماع إلى الرحلات الداخلية التي يضطلع بها موظفوهم والإقرار بها، ومن خلال التطلع إلى الشركات الأخرى بحثاً عن الإلهام والأفكار.

ليندا غراتون Lynda Gratton (@lyndagratton)

ليندا غراتون Lynda Gratton (@lyndagratton)

أستاذة الممارسة الإدارية في مدرسة لندن للأعمال London Business School ومؤسسة إتش إس إم HSM للممارسة الاستشارية. كتابها الجديد ”إعادة تصميم العمل“ كيفية تحويل مؤسستكم وجعل العمل الهجين للجميع، صدر في الولايات المتحدة في مايو من قبل مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT Press.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى