أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
رقمنة

وعد الإنتاج المكتفي ذاتياً

في حين كشفت سلاسل التوريد (الإمداد) Supply chains عن أوجه ضعفها خلال الجائحة، تعرض تكنولوجيات التصنيع الرقمي طريقا للتقدم قدما.

كانت مسألة حياة أو موت. أثناء الهجوم المبكر لجائحة كوفيد-19، فقد كان مستشفى في بريشيا بإيطاليا يعاني نقصاً في صمامات أجهزة التنفس. ولم يتمكن الموردون العاديون من تلبية الطلب المتزايد بسرعة على الأجزاء، التي كانت تشكل ضرورة أساسية لإبقاء المرضى على قيد الحياة.1Z. Kleinman, “Coronavirus: 3D Printers Save Hospital With Valves,” BBC, March 16, 2020, www.bbc.com; and D. Robitzki, “An Overwhelmed Italian Hospital Is 3D Printing Replacement Parts: Without the Extra Ventilator Valves, Some Patients Might Have Died,” NeoScope, March 16, 2020, https://futurism.com. لذلك في لحظة اليأس تواصل المستشفى مع المجتمع المحلي طلباً للمساعدة. واستجابت إيسينوفا Isinnova، وهي شركة في بريشيا قادرة على إنتاج نماذج أولية Prototyping، بسرعة لهذه الدعوة. فقد اعتمدت تصميماً لشركة أخرى، وصنعت نماذج أولية، ومن ثم أنتجت المئات من الصمامات بالطباعة ثلاثية الأبعاد أثبتت قدرتها على الاستجابة لحالة الطوارئ. وبعد ذلك طورت الشركة نفسها فكرة مبتكرة لتحويل قناع غطس السنوركل Snorkeling mask إلى جهاز تنفس في حالات الطوارئ. ونظرا للطلب الشديد على أجهزة تنفس الطوارئ عبر معظم أنحاء إيطاليا كلها، تواصلت إيسينوفا مع مجتمع التصنيع الرقمي لتوفير هذه المواد للمستشفيات المحلية، حسبما ذكرت مارتينا فيراكان Martina Ferracane، مؤسسة منظمة مختبر صقلية الغربية للتصنيع FabLab Western Sicily. وأُنتِجت آلاف القطع كتبرعات للمستشفيات في أنحاء المنطقة كلها. وصارت المنظومة الإيكولوجية الموزِّعة لمرافق التصنيع الرقمي – بعضها عبارة عن مختبرات التصنيع التابعة إلى المجتمعات الصغيرة، وبعضها تجاري – جزءاً مهماً من سلسلة التوريد المحلية لتوفير معدات الحماية الشخصية PPE، وقطع الغيار، والأجهزة الطبية لمرافق الرعاية الصحية.

وفي وقت تكشفت فيه هشاشة Fragile سلاسل التوريد العالمية والتصنيع على نطاق واسع Large scale manufacturing ومدى تعرضها للمخاطر Vulnerable، فإن الدور الذي تؤديه تكنولوجيات التصنيع الرقمي والمنظومات الإيكولوجية المحلية تقدم إلينا لمحة عن مستقبل تُمكِّن فيه الأشكالُ الجديدة من الإنتاج المكتفية ذاتياً المجتمعاتِ الصغيرة في مختلف أنحاء العالم.

ونعرّف الإنتاج المكتفي ذاتياً Self-sufficient production على أنه منتج محلي مُتَّصل عالمياً. ورأينا كيف أن التقدم في التصنيع الرقمي مكَّن المنظومات الإيكولوجية للإنتاج المحلي المـــُتـَّصِلة عالمياً من تصميم المنتجات المنقذة للحياة وتوفيرها. والاتصال العالمي سهّل المشاركة المفتوحة Open sharing لتصاميم المنتجات، وتحديد المواد الخام ذات الجودة الطبية، فضلاً عن الأساليب المبتكرة اللازمة لمواءمة التصاميم مع معايير السلامة. ومن ناحية أخرى، مكنت قدرات التصنيع الرقمي المحلية من إنتاج الأجهزة وقطع الغيار الطبية وتوفيرها من دون الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية. ولدعم هذه الحركة نحو زيادة الإنتاج المحلي المكتفي ذاتياً، أطلق مركز البتات والذرات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT’s Center for Bits and Atoms (اختصارا: المركز CBA) منتدى افتراضيا حضره مئات الخبراء من الأوساط الأكاديمية، والصناعة، والحكومة، والرعاية الصحية، والمنظمات غير الحكومية لتيسير الاستجابة السريعة للجائحة. وتعاون المشاركون في حل عشرات التحديات الفنية والتنظيمية، إذ تحولت مرافق التصنيع الرقمي في المدارس والمختبرات والمكتبات والمراكز المجتمعية والشركات الناشئة في المشروعات والصناعة إلى منظومات إيكولوجية إنتاجية محلية وإقليمية مترابطة وموزعة.

وقبل تفشي جائحة كوفيد-19، كانت عناصر الإنتاج المكتفية ذاتياً واضحة بالفعل إذا كنتم تعرفون أين تبحثون.2We highlighted places to look in our book, “Designing Reality: How to Survive and Thrive in the Third Digital Revolution” (New York: Basic Books, 2017). ولكن خلال هذه الجائحة، صارت القدرات مرئية Visible على نطاق أوسع – فكشفت عن مزايا الشبكة المُوزَّعة Distributed network عند مقارنتها ببنية تنظيمية هرمية تقليدية Hierarchical organizational structure. واستناداً إلى ما نجح أثناء انتشار الجائحة، صار من الواضح الآن أن الإنتاج المكتفي ذاتياً والمدمج في شبكات مترابطة من الممكن أن يترك آثاراً أوسع نطاقاً بعد التعافي. فتتزايد إمكانية امتلاك الأفراد والشركات الصغيرة والمجتمعات الصغيرة بالفعل وسائل الإنتاج – فتجمع بين ممارسات عصر ما قبل التصنيع ولكن على نحو يتسم بالاتصال العالمي والاكتفاء الذاتي على المستوى المحلي.

التصنيع

أين يقف التصنيع الرقمي حاليا

عندما يسمع أغلب الناس عبارة ”تصنيع رقمي“ Digital fabrication، يفكرون في الطابعات الثلاثية الأبعاد 3D printers. والواقع أن الطابعات الثلاثية الأبعاد هي المظهر الأكثر وضوحاً لهذه الظاهرة الجديدة، لكنها مجرد جزء واحد من صندوق الأدوات الحالي. ففي مختلف أنحاء العالم، يستخدم الناس مجموعة من الأدوات التي يتحكم فيها الحاسوب لصنع عناصر مختلفة مثل الطعام، والأثاث، والحرف اليدوية، والحواسيب، والبيوت، والسيارات. وهناك آلات تقطع بدقة بالليزر؛ وأدوات قطع دوارة أكبر لنحت الأشياء مثل الأثاث؛ وسكاكين آلية لرسم الرسوم البيانية؛ وقوالب لصب القطع؛ وأدوات إلكترونية لإنتاج الدوائر وتجميعها وبرمجتها؛ وأدوات مسح لتحويل الأشياء إلى رقمية حتى يمكن تكرارها. وتجمع هذه الأدوات معاً ما يصل إلى مرفق تصنيع كامل — أو مختبر تصنيع فاب لاب Fab labs.

وتشترك مختبرات الفاب لاب هذه في التصاميم والأساليب، بل حتى الموارد اللازمة لتحديد المواد الخام المحلية وتحديد مصادرها. ويتضاعف عدد مختبرات الفاب لاب في مختلف أنحاء العالم كل 18 شهراً تقريباً منذ أكثر من عقد من الزمن. والآن هناك أكثر من ألفين منها في مختلف أنحاء العالم، من الطرف الشمالي للنرويج إلى الطرف الجنوبي من إفريقيا، ومن ألاسكا الريفية إلى اليابان الحضرية. ونظراً لأن مختبرات الفاب لاب لها بصمة مشتركة على صعيد البرمجيات والمعدات، يسهل تطبيق الأفكار التي طُوِّرت في أحد المختبرات عبر معظم أجزاء الشبكة.

وتمثل هذه الحركة الناشئة حول التصنيع الرقمي ثورة رقمية ثالثة Third digital revolution من المرجح أن تكون على القدر نفسه من الأهمية التي كانت عليها أول ثورتين رقميتين في مجالي الاتصالات والحوسبة. وبدأت هاتان الثورتان الرقميتان صغيرتين ونمتا بسرعة لتحويل وجه المجتمع. والتصنيع الرقمي اليوم في المرحلة نفسها تقريباً التي كانت الحوسبة الرقمية فيها في أوائل ثمانينات القرن العشرين، عندما أتاحت الحواسيب الشخصية لملايين الأشخاص إمكانية الوصول إلى قدرة كانت تقتصر في السابق على المؤسسات الكبيرة. وأعقبت الحواسيب بعد عقدين من الزمن بلايين الأجهزة المحمولة وتريليونات الأشياء المتصلة.

واليوم صارت لدينا الآلاف من مختبرات الفاب لاب، مع إمكانية وجود الملايين من المصنعين الأفراد – أنظمة التصنيع الصغيرة للاستخدام الشخصي – وخريطة طريق بحثية تؤدي إلى مستقبل يضم بلايين من أدوات التجميع العالمية، ثم تريليونات من أنظمة التجميع الذاتي في العقود المقبلة من الزمن. وكما هي الحال مع التحسينات الهائلة التي أُدخِلت على التقنيات الرقمية السابقة، تعد كل مرحلة من مراحل التطور هذه بأن تكون أسرع وأفضل وأرخص.

ويقدم الإنتاج المكتفي ذاتياً فوائد للأفراد والمجتمعات الصغيرة تفوق مجرد القدرة على الاستجابة للأزمات فحسب. وتُعَد صناعة البضائع التي تلبي الاحتياجات الشخصية والعائلية والمجتمعية المحلية أمراً محبذا جدا. ولا يستطيع الأفراد والمجتمعات أن يقللوا من اعتمادهم على سلاسل التوريد العالمية من خلال الجمع بين عمليات التصنيع الرقمي وممارسات الإنتاج التقليدية فحسب، بل يمكنهم أيضاً أن يرفعوا مستويات رفاههم ووكالتهم Agency وكرامتهم.3D. Dougherty and A. Conrad, “Free to Make: How the Maker Movement Is Changing Our Schools, Our Jobs, and Our Minds” (Berkeley, California: North Atlantic Books, 2016). والجمع بين التكنولوجيا والإبداع البشري سيساعد على إنشاء مجتمعات صغيرة أكثر صحة وإنتاجية.

التصنيع الرقمي أثناء جائحة كوفيد-19

السؤال الرئيسي حول التصنيع الرقمي هو ما إذا كان التقدم نحو زيادة الإنتاج المكتفي ذاتياً والذي أُحرِز أثناء أزمة كوفيد-19 من الممكن أن يستمر في الأجل البعيد. ففي الأوقات العصيبة يكون الناس أكثر اكتفاء ذاتياً بحكم الضرورة. فمثلا كانت هناك الملايين من حدائق النصر Victory gardens لتوفير الطعام أثناء الحربين العالميتين. ولكن التاريخ يؤكد أن ممارسات كهذه تلاشت بمجرد مرور الأزمات. غير أن هناك العديد من السبل التي قد يستمر بها الإنتاج المكتفي ذاتياً في النمو حتى بعد تراجع الجائحة إذا ما أدركنا التحديات وبنينا على ما تعلمناه حتى الآن.

كان التحدي الأول في الاستجابة لكوفيد-19 هو الانتقال من منشآت لمجتمعات صغيرة يشغلها أفراد بأنفسهم إلى إنتاج على نطاق أوسع. وفي كاليفورنيا، قال داني بيسلي Danny Beesley، مؤسس مختبرات بناة الأفكار Idea Builder Labs، متحدثا عن تجربته في زيادة الإنتاج بسرعة في ذروة الجائحة في أبريل 2020: ”بالأمس كانت قدرتنا الإنتاجية 450 كمامة في اليوم؛ واليوم صار العدد ثلاثة آلاف، وغداً سيتضاعف إلى ستة آلاف على الأقل“. وقد تحقق هذا بفضل Validating التحقق من صحة التصاميم، وتنسيق الجهود التي تبذلها مختبرات التصنيع المتعددة، والتواصل مع موردي المواد الخام (بما في ذلك كوكاكولا Coca-Cola، التي تبرعت بلفافات بلاستيكية). وقال بيسلي إن تجميع المواهب المطلوبة كان أسهل مما كان متوقعاً بفضل مهارات الأشخاص الذين تقدموا للعمل خلال الجائحة. وعلى نحو مماثل، فقد تمكن فايبهاف تشابرا Vaibhav Chhabra وريتشا شريفاستافا Richa Shrivastava، من ملاذ الصانع Maker’s Asylum في مومباي بالهند، من تنسيق قدرات الإنتاج الموزعة المحلية من أجل توفير مليون درع وجهية Face shields ازداد عليها الطلب زيادة طارئة.

أما التحدي الثاني؛ فهو التعاون من دون وجود أي مؤسسة واحدة تتولى المسؤولية. فقد وصف بيبس فيزي Pips Veazey من جامعة ألاسكا University of Alaska، والذي يتولى قيادة الأبحاث التي تمولها مؤسسة العلوم الوطنية National Science Foundation حول التغيرات في المنظومات الإيكولوجية في ألاسكا، عملياتِ التعاون التي نشأت أثناء الجائحة وقد تستمر بعد ذلك. وقال فيزي: ”في البداية اجتمع الطرفان المعنيان – المستشفى والجامعة. ولكن بعد ذلك انضمت إليهما شركة لتصنيع الخيام، وشركة متخصصة بتكنولوجيا المعلومات، ومصنع محلي للتقطير، وشركة لتصنيع النوافذ والأبواب، وغير ذلك من الشركات لإنتاج معدات الحماية الشخصية وأجهزتها“. ويتمثل التحدي بأن هذه المؤسسات المتنوعة لا تتمتع إلا بخبرة محدودة في العمل معاً ولا تعقد سوى عدد قليل من الاتفاقيات الرسمية، ناهيكم عن أي تجربة تعاون تحت ضغط كهذا. وتمثل الحل باستجابات المجتمع الصغير الأولي السريع التبلور لمجابهة كوفيد-19: وشكلت الأطراف تحالفاً، عرضت فيه كل مؤسسة إلى مواطن قوتها وقدراتها، من أجل إنشاء نظام إنتاج مؤقت قادر على تحقيق أهداف مشتركة.

ولعل التحدي الأكثر أهمية كان ضمان توافق المبادرات المستندة إلى المجتمعات الصغيرة مع معايير السلامة وعدم إلحاق أي ضرر. وفي المثال السابق الذي ضربناه من إيطاليا، أصدرت الهيئات التنظيمية الوطنية أمراً بوقف العمل والكف عن العمل في مرافق التصنيع الموزعة لأنها لم تكن تعمل على نحو متسق مع المعايير التنظيمية (وحتى إن طلبت المستشفياتُ إليها الاستمرار بالإنتاج لأن سلاسل التوريد كانت لا تزال معطلة في ذلك الوقت). فقد طُوِّرت المعايير التنظيمية لإنتاج الإمدادات الطبية مع أخذ الشركات الفردية في الاعتبار وافتراض سلاسل التوريد التقليدية بدلاً من الشبكات المترابطة التي تملأ الفراغ عندما انهارت سلاسل التوريد.

واستجابة للحاجة إلى المنهجيات الصارمة للعلوم واللازمة لمساعدة جهود الإنتاج الموزعة، قدمت المجموعة العاملة التي استضافها المركز CBA التوجيه اللازم. وتضمنت التبصرات المبكرة استخدام النمذجة الحوسبية لديناميكيات السوائل Computational fluid dynamics modeling لتسليط الضوء على عدد دروع الوجه التي أُنتِجت وفشلت في توفير التغطية الكافية لعدم احتوائها على جوانب الوجه كلها، والاعتراف بفشل الجهود الواسعة النطاق لإنتاج أجهزة التنفس في تلبية الحاجة بالحالات التنفسية الأخرى الأكثر شدة.

ومع استمرار الأزمة، توسع الفريق العامل ليشمل تعاونات مع شركاء غير معتادين. مثلاً، تمكنت أرتيسانز أسيلوم Artisan’s Asylum وهي ورش صناعية Makerspace مقرها بوسطن، من إعادة استخدام جهاز غير مستخدم للحام بالموجات فوق الصوتية في المركز CBA لصنع أردية الأطباء. وتمكن خبير في وضع نماذج حاسوبية متقدمة من سيموليا Simulia، وهي شركة تابعة لأنظمة داسو Dassault Systèmes، من تحسين تصاميم معدات الوقاية الشخصية التي يؤديها الهواة بإنتاجها. وقدم أطباء غرفة الطوارئ من مركز بوسطن الطبي Boston Medical Center ملاحظات شبه فورية على نماذج أولية لمعدات الوقاية الشخصية إلى مستخدمي أدوات التصنيع المتقدمة في ورش المركز CBA. وساهمت هذه التطورات وغيرها مجتمعة مساهمة كبيرة في سلامة العاملين في مجال الرعاية الصحية ممن هم على تماس مع المرضى.

وعمل المركز CBA يشابه تقريبا وظيفة البحث والتطوير R&D التي تجريها شركة ما، ويتوافق عمل التحالفات الإقليمية لمختبرات الفاب لاب وميكرسبيس مع عمليات الإنتاج. وعلى الرغم من أن مختبرات الفاب لاب كانت تجرب التصاميم المختلفة، إلا أن بعض الأسئلة العلمية الأساسية والمعايير الطبية تتجاوز الخبرات العلمية الموجودة في هذه المختبرات الفردية.أما عناصر الشكل التنظيمي التي هي من الجوانب المتأصلة في هذه الجهود الجماعية– تحالف يضم العديد من أصحاب المصلحة – فقد أدت دوراً حاسماً، حتى وإن لم يكن جديداً، في مساعدة المجتمعات المحلية على حل مشكلاتها خلال الأزمة. وإلى جانب الاستخدام السريع لتقنيات التصنيع الرقمي، هناك جيل موازٍ من اتحادات عالمية متزايدة القوة، ستكتسب أهمية متزايدة في السنوات المقبلة.

كما أن التنسيق والتواصل Communication -بين إجراءت البحث والتطوير الافتراضية هذه وبين مختبرات الفاب لاب التي تحولها إلى عمليات إنتاج- تشمل اجتماعات منتظمة أونلاين إلى جانب تعاونات في الواقع. وتسلط هذه الأشكال من البحث والتطوير والإنتاج الموزعة الضوءَ على الكيفية التي يمكن بها معالجة الإبداع والسلامة أثناء الأزمات السريعة التطور، حتى في غياب بنية مؤسسية نظامية. وتبين أنماط الاكتفاء الذاتي التي ظهرت أثناء انتشار الجائحة كيف يمكن أن يستمر نشر نتائج البحث والتطوير والإنتاج المحلي، وأن يتوسع كترتيبات تنظيمية ومؤسسية حيوية أثناء التعافي من الجائحة.

الإنتاج المكتفي ذاتياً في أعقاب الجائحة

يجري الآن توسيع نطاق الابتكارات المنبثقة أثناء الجائحة والعلاقات التعاونية التي نشأت أثناءها، لتلبية الاحتياجات الصغيرة للمجتمعات الصغيرة. مثلاً، يتوقع بيسلي توسيع نطاق تركيز مختبرات بناة الأفكار Idea Bulder Labs لتشمل المساكن الخاصة بالمشردين. وعلى حد تعبيره: ”نستطيع أن نقول إن مختبر تصنيع ساعد على صنع الكمامة التي على وجهكم من الممكن أيضاً أن يصنع سقفاً فوق رأسكم“. ولمواجهة هذا التحدي، تشجع المؤسسة أصحاب المصلحة على تشكيل تعاونية مملوكة للعاملين مستدامة مالياً.

كذلك ألهمت أزمة كوفيد-19 شبكة مختبرات فاب لاب لصنع ابتكارات تتجاوز المعدات الطبية. وطور مختبر فاب لاب في برشلونة آلة تصنيع صغيرة تبلغ قيمتها نحو 100 دولار يمكن لطلبة برنامج أكاديمية التصنيع Fab Academy التعليمي جلبها إلى منازلهم حين لا يتمكنون من الوصول إلى الفاب لاب المحلي. كذلك قدم مختبر فاب لاب في فنلندا روابط فيديو تسمح للطلبة بتشغيل آلاتهم في المختبر من منازلهم. وطور مختبر فاب لاب في دولة الإمارات العربية المتحدة نسخة بالواقع الافتراضي لمختبره، الأمر الذي يوفر مرة أخرى فرصاً للمشاركة عن بُعْد وتنمية المهارات. فكل هذه التطورات، التغيرات التي حدثت في وقت أسرع بكثير من المتوقع، تحدَّت الاعتقاد السابق غير القابل للشك في أن الطلبة بحاجة إلى الوجود شخصيا من أجل المشاركة في مختبرات الفاب لاب.

ونظراً للدور المتزايد الذي أداه الإنتاج المكتفي ذاتياً والذي نشأ أثناء الجائحة، فهل هذه هي اللحظة التي قد تبدأ فيها تركيبة الترابط العالمي والقدرات المحلية بتسريع بناء عالَمٍ أكثر اكتفاء ذاتياً؟ نعلم أن مشروعات فاب لاب المواد الغذائية تشتمل بالفعل على ابتكارات في الإنتاج المحلي من الغذاء، والمأوى، والطاقة، والمفروشات، والملابس، والرعاية الطبية، والترفيه، والتعليم، وغير ذلك من البضائع والخدمات في سلة البضائع المُستخدَمة في حساب مؤشر أسعار المستهلك Consumer price index. وهناك أمثلة لا حصر لها على مشروعات مختبرات الفاب لاب التي تناسب كل فئة من هذه الفئات، ومن بينها الأثاث المُخصَّص Custom furniture، وأنظمة إنتاج الغذاء بالزراعة المائية Hydroponic، والأطراف الاصطناعية، وأجهزة شحن الهواتف المحمولة، والأدوات الموسيقية، والمنازل الصغيرة.

وعلى الرغم من وجود إثباتات على هذه المشروعات كلها التي يمكن العثور عليها في المجتمعات الأكثر ثراء، فقد سلطت الجائحة العالمية الضوء أيضاً على أهمية التصنيع المحلي في العالم النامي. ويشير أندرو لام Andrew Lamb الذي يتولى قيادة الابتكار العالمي لمنظمة فيلد ريدي Field Ready للإغاثة من الكوارث، قائلاً: ”في المجتمعات النامية وفي حالات الكوارث، كان التركيز دوماً على الإنتاج العملي – أي صنع الأفراد ما يحتاجون إليه“. وليس من قبيل المبالغة أن نتصور أن التصنيع الرقمي، مع تحسن الإبداع وتكريس الدروس المستفادة من الجائحة العالمية، من الممكن أن يحسن فعليا من توفر كل فئات البضائع الأساسية للأسر في المجتمعات الصغيرة بمختلف أنحاء العالم.

ماذا يعني نظام الإنتاج المشترك المكتفي ذاتياً بالنسبة إلى الشركات

صار التصنيع الرقمي متزايد الأهمية للمؤسسات الكبيرة والصغيرة. ويأتي دخول الشركات الكبرى إلى المنظومة الإيكولوجية الموزَّعة مصحوباً بفرصة عظيمة ومخاطر عظيمة للحركة نحو الإبداع الموزَّع والتمكين المحلي.

والواقع أن بعض الشركات ترى الفرصة لخدمة مصالحها الخاصة وإشراك مجتمعاتها الصغيرة. ففي البرازيل، أطلقت فيات كرايسلر Fiat Chrysler مختبر فاب لاب مجتمعي لتعليم المهارات، يهدف إلى حمل العاملين والمهندسين والمديرين على إدارة الاتصال المجتمعي وزيادة المعرفة الرقمية ومعرفة التصميم داخل المجتمع الصغير. كذلك تمول شركات صناعية كبرى أخرى، مثل جنرال إلكتريك General Electric، وشيفرون Chevron، وسوليدووركس SolidWorks التابعة لأنظمة داسو، إنشاء مختبرات فاب لاب في المجتمعات الصغيرة التي تعمل فيها، بالتنسيق مع مؤسسة التصنيع Fab Foundation. وتخطط إيكيا Ikea، التي تبيع أثاثاً قابلاً للتجميع الذاتي وغيره من الأثاث المنزلي، لكي تكون موفراً للمثبتات Fasteners وغيرها من المواد التي يصعب إنتاجها في مختبرات الفاب لاب وميكرسبيس، مُضيفةً إلى نموذج أعمالها Business model فرضيةَ تزايد الطلب على الإنتاج المكتفي ذاتياً. فهناك العشرات من منتجي معدات التصنيع الرقمي وبرمجياته الذين يتبنون التصنيع الرقمي للاستخدام التعليمي، والنماذج الأولية السريعة، والإنتاج الصناعي. ففي شنجن بالصين، وهي المركز العالمي لإنتاج الإلكترونيات، يتوقع المخططون بالفعل اضطلاع المنطقة بدور في توفير وحدات قابلة للبرمجة يمكن دمجها في المنتجات المصممة والمنتجة في مختبرات فاب لاب وميكرسبيس.

وتستثمر بعض شركات التكنولوجيا والوكالات الحكومية في ريادة التصنيع الرقمي من أجل النهوض بالإنتاج المحلي. مثلاً، تعمل إيرباص Airbus مع المركز CBA على عمليات تجميع طائرات كاملة في شكل مباشر من مواد ”رقمية“ منفصلة، من دون سلاسل التوريد الطويلة المعتادة. كما تشارك الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) National Aeronautics and Space Administration (NASA) مع المركز CBA في كيفية تمكين المواد الرقمية القابلة للبرمجة من بناء المستوطنات الفضائية المكتفية ذاتياً.

كذلك يمكن أن يشكل التصنيع الرقمي المحلي تهديداً للشركات. والإنتاج المكتفي يناقض سهولة تشغيل الحاسوب والطلب بنقرة واحدة لمنتج يصل في اليوم التالي. فالتصنيع الرقمي يمكِّن صنع المنتجات المصممة والمخصصة المنتجة بواسطة الأفراد لأنفسهم وبواسطة المجتمعات الصغيرة لنفسها بدلاً من المنتجات المنتجة بكميات كبيرة والموزعة بكميات كبيرة. وإضافة إلى ذلك، تركز روح الإنتاج المكتفية ذاتياً على المشاركة المفتوحة على النحو الذي يتعارض مع بعض معايير الأعمال. مثلاً، تتشدد الشركات التجارية في بعض الصناعات في حماية الممتلكات المادية، لكن منصة ماتريوم Materiom الرقمية، التي أعدتها أليسيا غارموليويتش Alysia Garmulewicz، أستاذة الاقتصاد الدائري Circular economy في جامعة سانتياغو بتشيلي، مصممة لتبادل المعلومات حول المواد المحلية المستخدمة في التصنيع الرقمي. وهكذا يجسد الإنتاج المكتفي ذاتياً منطقاً مفتوحاً وتعاونياً يتفق مع بعض جوانب العمل لكنه يتعارض مع معايير المنافسة والحقوق الفكرية.

وفي الوقت نفسه، هناك ديناميكيات تجارية قد تقوض الإنتاج المكتفي ذاتياً الموجه محلياً والموزع. فقد تسارعت الثورتان الرقميتان الأوليان بفضل الطاقة والإبداع والمثالية المتجسدة في نوادي الحاسوب المنزلية والمجتمعات الصغيرة التي ربطت بينها الشبكات الأولى التي أرست أسس الإنترنت. وكانت هناك تبصرات عظيمة فيما يتعلق بالتكنولوجيات الرقمية التي تعمل على دمقرطة جوانب المجتمع كلها، الأمر الذي جعل العالم أكثر إنصافاً وسلاماً وصحة. وإذ ننظر إلى الوراء بعد بضعة عقود من الزمن، ليس هناك من شك في أن الثورتين الرقميتين الأوليين حولت العالم وحسنت حياة العديد من الناس – لكن إنجازاتها كانت أقل كثيراً من ما صبت إليه التبصرات المبكرة المتفائلة. والآن تهيمن على نظام الإنترنت حفنة من الشركات التي تحكم قبضتها على منصاتها القوية، إلا أن الأصوات النشازة والمعلومات المضللة الصادحة على منصاتها، مقترناً بمخاوف تتعلق بالخصوصية، قد ولّد ردَة فعلٍ عكسية تكنولوجية عالمية.

تعكس روح المنظومة الإيكولوجية مختبرات فاب لاب المبكرة الإيكولوجية روح المتبنين الأوائل للثورتين الرقميتين الأوليين، لكن هذه المثل قد تتفوق عليها مطالب المستثمرين الذين يسعون إلى تحقيق عوائد كبيرة، وكذلك الديناميكيات التنافسية التي توجه البرمجيات والأجهزة الخاصة. والسؤال الرئيسي هنا هو ما إذا كانت المنظومات الإيكولوجية التعاونية المحيطة بالتصنيع الرقمي ستعاني المصيرَ التجاري نفسه الذي سيتعرض له العديد من منصات التواصل الرقمي والحوسبة الرقمية، أو ما إذا كانت حركة مفتوحة للأجهزة Open hardware movement ستزدهر باعتبارها نظيراً فعليا لنجاح تطوير البرمجيات المفتوحة المصدر Open-source software.

روح المنظومة الإيكولوجية لفاب لاب تعكس الـمُـثل المبكرة للثورتين الرقميتين السابقتين، لكن هذه المثل قد تقع ضحية مطالب المستثمرين الذين يسعون إلى تحقيق عوائد كبيرة والديناميكيات التنافسية التي توجه البرمجيات والأجهزة.

إلى أين نذهب من هنا؟

سيتطلب تحقيق الإمكانات الكاملة للإنتاج المكتفي ذاتياً شراكات بين القطاعين العام والخاص، بالاعتماد على المبادرات التي أُطلِقت قبل انتشار الجائحة. ففي الولايات المتحدة قُدِّم إلى الكونغرس عام 2019 القانون الوطني لشبكة مختبرات الفاب لاب بغرض الوصول الشامل إلى التصنيع الرقمي. وهذا القانون يتخذ الآن معنى جديداً في أعقاب الجائحة، فهو يوفر إطاراً للتصنيع الرقمي ويضفي عليه الشرعية بوصفه قدرة متوسطة المستوى بين ما يصنعه المرء بنفسه DIY (الذي يمكنه الاستجابة بسرعة لكن ليس على نطاق واسع) والإنتاج الضخم (الذي يمكنه أن يتوسع لكنه لا يستجيب بسرعة). وعند المستوى الدولي، تضم حركة ”فاب سيتي“ Fab City movement المتنامية، التي بدأت في برشلونة عام 2014، رؤساء بلديات، ومخططي مدن، وغيرهم ممن وقعوا على خطة مدتها 40 سنة لاستخدام تكنولوجيات التصنيع الرقمي لكسر اعتمادهم على سلاسل التوريد العالمية.

ولن يكون التقدم نحو الإنتاج المكتفي ذاتياً على نطاق واسع بالمهمة السهلة. فإضافة إلى التحديات الكامنة في الإنتاج الموزع غير الهرمي، هناك ثلاثة حواجز تشكل عتبات تحول دون التصنيع الرقمي في كل مكان، وكل منها يعكس التحديات المستمرة التي تفرضها الثورتين الرقميتين الأوليين: الوصول Access، والأمية (الرقمية) Literacy، والمخاطر Risk. يبدأ الأول من هذه التحديات، وهو الوصول، بالفجوة الرقمية الحالية. فنحو ربع سكان الولايات المتحدة ونحو نصف سكان العالم لديهم وصول محدود أو لا وصول لهم إلى الإنترنت.4“ICT Data Portal,” International Telecommunication Union, accessed Sept. 18, 2020, www.itu.int. ومن أولئك الذين لديهم وصول إلى الإنترنت، تملك نسبة ضئيلة فقط وصولاً إلى معدات تصنيع رقمية. بل أن مضاعفة عدد مختبرات الفاب لاب كل 18 شهراً من شأنها إبقاء الأغلبية العظمى من الناس محرومة من الوصول إلى هذه التكنولوجيات القوية لفترة طويلة.

وعلى الرغم من وجود أكثر من ألفي مختبر فاب لاب، سيعتمد التقدم الحقيقي في مجال الوصول على التقدم في التكنولوجيا التي تتحرك نحو مزيج من كل من التصنيع الشخصي ومرافق التصنيع الأكبر — لذلك فالمضاعَف ليس مختبراً واحداً في كل مرة، بل وحدات أكبر وأصغر من القدرة الإنتاجية. ومن المرجح أن يتحقق الوصول من خلال المنظومات الإيكولوجية على مستوى المجتمعات الصغيرة، بحيث تتمكن في الوصول إلى بعض القدرات الإنتاجية عند نطاق أوسع على مستوى المجتمع الصغير (مثل مكاتب خدمات الطباعة)، في حين أن الآلات الصغيرة الحجم – التي ربما تتوفر في مختبرات الفاب لاب– متاحة أيضاً للأفراد. وستكون للوصول أبعاد تكنولوجية واجتماعية، لأن وسائل الإنتاج ستكون بين أيدي الأفراد والعائلات والأحياء السكنية وغير ذلك من المجتمعات الصغيرة، وليس فقط الشركات. وسيتطلب ذلك وضع معايير وممارسات تشغيل جديدة.

أما أولئك الذين يتمتعون بالوصول؛ فسيظلون بحاجة إلى تطوير مهارات متعددة من مهارات التصنيع الرقمي. وتشمل هذه المهارات تطوير القدرة على استخدام برمجيات التصميم بمساعدة الحاسوب، والتعلم من أجل تطبيق التصميم الحاسوبي على معدات الإنتاج ذات الصلة باستخدام المواد الخام المناسبة. والأعداد المتزايدة من المدربين الأكفاء ستعزز نشر هذه المهارات في مختبرات فاب لاب، وستساعد على معالجة هذا التحدي، فضلاً عن نمو البرامج العملية مثل أكاديمية التصنيع Fab Academy. كذلك صارت التكنولوجيا أكثر سهولة في الاستخدام مع ظهور أجيال جديدة من البرمجيات والأجهزة.

وكما هي الحال مع أي تكنولوجيات جديدة متطورة وترتيبات مؤسسية تهدف إلى توليد قيمة في المجتمع، فإن الإنتاج المكتفي ذاتياً يحتاج أيضاً إلى التخفيف من المخاطر.5J. Cutcher-Gershenfeld and J. Isaac, “Creating Value and Mitigating Harm: Assessing Institutional Objectives in Australian Industrial Relations,” Economic and Labour Relations Review 29, no. 2 (June 2018): 143-168. وتركز أغلب سبل الحماية في المجتمع على السلامة في مكان العمل، وعلى المخاطر البيئية، وعلى التمييز، وربما الأكثر تحدياً، على تنظيم المنشآت التجارية، وهي لا تنطبق دوماً على مختبرات فاب لاب المجتمعية. وقد تطور معظم التكنولوجيا الحيوية في المختبرات التجارية والجامعية والحكومية، حيث توجد بروتوكولات متطورة للإشراف الأخلاقي، لكن الآن صار من الممكن تصنيع المنتجات الحيوية على نطاق المجتمع الصغير. ولا بد من معالجة هذه المخاطر نفسها في عالم التصنيع الرقمي المتباين. وبدلاً من الاعتماد على نقاط تحكم مركزية، لا بد من توفير الحوافز والآليات الجديدة لاحتواء المنتجين المكتفين ذاتياً في الأطر التنظيمية الوطنية والمحلية.

وبعيداً عن المسائل الاجتماعية والبيئية، هناك مخاطر تحيط بإساءة استخدام هذه التكنولوجيات المتقدمة. وتشمل هذه المخاطر الإنتاج المقصود للأسلحة والإنتاج غير المقصود للمخاطر، ولاسيما مع الاستخدام المتزايد للتصنيع الحيوي. وهناك تحدٍ اجتماعي عميق يتمحور حول إدارة المخاطر عندما تكون القدرة الإنتاجية موزعة على نطاق واسع ويُتحكَّم فيها محلياً أو فردياً. ومن واجبنا أن نتولى قيادة الترتيبات المؤسسية الرشيقة التي تعمل لتخفيف المخاطر بالاستعانة بالتكنولوجيات الموزعة والتي تتطور في شكل مشترك مع تقدم التكنولوجيات بمعدلات هائلة.

الاستنتاج

كانت احتمالات الاكتفاء الذاتي الممكن بالتكنولوجيا حاضرة قبل جائحة كوفيد-19، ونتوقع أن تتسارع الآن، نظراً للوعي الجديد بالحاجة إلى الحد من الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية، والمساهمة الواضحة في التصنيع الرقمي للتخفيف من حدة مشكلات سلاسل التوريد. ولكنه قد يتطور بطرق قد تفيد أو تلحق الضرر بالعديد من جماعات أصحاب المصلحة في المجتمع.

ومن الممكن أن يصل الإنتاج المكتفي ذاتياً إلى أولئك الذين هم على هامش المجتمع المدني وأن يمكِّنهم. وبالفعل، نرى الناس في صحاري الأغذية الحضرية يستكشفون إنتاج الأغذية بالزراعة بالزراعة المائية، وسكان المناطق الريفية النائية يصنعون بأنفسهم قطع الغيار الخاصة بمعداتهم. وفي بعض الحالات، بدأ الناس بتصنيع معدات تصنيع رقمية بأنفسهم، وتكييف التكنولوجيات لتلبي الاحتياجات المحلية الفريدة. والأمل بتمكين الوكالات البشرية والمجتمعات الصغيرة هو الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من مفهوم الإنتاج المكتفي ذاتياً. ويتناقض هذا الأمل مع الخوف المشترك من تسبب التكنولوجيا المركزية في تآكل الاستقلالية والإبداع البشريين.

ماذا لو كانت الاستجابة البعيدة الأجل لكوفيد-19 عبارة عن سلسلة من المبادرات الموزعة على نطاق صغير، بحيث تشكل كل المجتمعات الصغيرة المختلفة مجموعة من النماذج المختلفة للإنتاج المكتفي ذاتياً؟ إلا أنه لا تزال هناك حاجة إلى وجود آليات للتنسيق والتوحيد الدوري للمعايير من خلال اتحادات للأصحاب المصلحة المتباينين، وذلك على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية والدولية. وقد لا يكون ذلك بمثابة مشروع مركزي للمجتمع، ولكنه قد يشتمل بدلاً من ذلك على ابتكار متوازٍ موزع، فضلاً عن نشر التعلم وتوحيد الأهداف، وتعزيز الكرامة والعمل المجدي، فضلاً عن زيادة الاكتفاء الذاتي لتلبية الاحتياجات المحلية المشتركة والفريدة من نوعها. ورأينا ما هو ممكن، وهو يقدم إلينا لمحة عن مستقبل أفضل، إذا اخترنا أن نميل جماعياً إلى رعاية الوصول إلى التصنيع والمعرفة في شكل استباقي.

فقد تسببت الثورتان الرقميتان السابقتان في فوارق رقمية، إذ لا يستطيع نصف كوكب الأرض الوصول إلى الإنترنت والعديد من أولئك الذين يفعلون ليس لديهم سوى قدرة محدودة جدا للوصول إلى الإنترنت. ونحن -المؤلفين- نسلط الضوء الآن لنحض العمل الجماعي على تجنب الانقسام المتزايد بين الناس، إذ يستطيع البعض الحصول على هذه الأدوات القوية والمهارات اللازمة لتسخير هذه الأدوات على نحو فاعل لتلبية الاحتياجات المحلية واكتساب الاكتفاء الذاتي، في حين لا يتمكن آخرون من ذلك.

ركز منطق الثورة الصناعية على تزايد القدرة الإنتاجية، والثروة التي يستولي عليها كلها الفائز، والتحكم المركزي. وفي مستهل الأمر أُعلِن أن منطق الثورتين الرقميتين الأوليين يتلخص في تحقيق قدر أعظم من اللامركزية، في ظل أنماط أكثر مساواة من الحوكمة. والواقع أنها في أغلبها لم تكن إلا استمرارا للمنطق التنظيمي والمؤسسي المركزي من عصور سابقة. والآن حان الوقت للتعلم من الثورتين الرقميتين الأوليين، ماذا يتعين عمله وما لا ينبغي العمل به، مثلما وضحته الاستجابة لكوفيد-19 من وعد الثورة الرقمية الثالثة وخطورتها في آن.

جويل كوتشر غيرشينفيلد Joel Cutcher-Gershenfeld

جويل كوتشر غيرشينفيلد Joel Cutcher-Gershenfeld

أستاذة في مدرسة هيلر للسياسة الاجتماعية والإدارة Heller School for Social Policy and Management بجامعة برانديز Brandeis University.

ألان غيرشينفـيلد Alan Gershenfeld

ألان غيرشينفـيلد Alan Gershenfeld

مؤسس مشارك ورئيس إي لاين ميديا E-Line Media.

نيل غيرشينفـيلد Neil Gershenfeld

نيل غيرشينفـيلد Neil Gershenfeld

مدير مركز البتات والذرات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT’s Center for Bits and Atoms. للتعليق على هذا الموضوع: https://sloanreview.mit.edu/x/62211.

المراجع

المراجع
1 Z. Kleinman, “Coronavirus: 3D Printers Save Hospital With Valves,” BBC, March 16, 2020, www.bbc.com; and D. Robitzki, “An Overwhelmed Italian Hospital Is 3D Printing Replacement Parts: Without the Extra Ventilator Valves, Some Patients Might Have Died,” NeoScope, March 16, 2020, https://futurism.com.
2 We highlighted places to look in our book, “Designing Reality: How to Survive and Thrive in the Third Digital Revolution” (New York: Basic Books, 2017).
3 D. Dougherty and A. Conrad, “Free to Make: How the Maker Movement Is Changing Our Schools, Our Jobs, and Our Minds” (Berkeley, California: North Atlantic Books, 2016).
4 “ICT Data Portal,” International Telecommunication Union, accessed Sept. 18, 2020, www.itu.int.
5 J. Cutcher-Gershenfeld and J. Isaac, “Creating Value and Mitigating Harm: Assessing Institutional Objectives in Australian Industrial Relations,” Economic and Labour Relations Review 29, no. 2 (June 2018): 143-168.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى