أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
اتخاذ القراراخترنا لكعلم الاجتماععلم النفس

ما الذي يكشفه فيروس كورونا عن تحيزات قراراتنا

توماس إتش. دافنبورت

في أوقات الأزمات يكون اتخاذ القرار أكثر أهمية، وقد تكون جائحة كوفيد-19 أهم أزمة واجهها العديد منا. ولكن خلال فترات التوتر يكون اتخاذ القرار أيضاً أكثر تحدياً، ويكون الأكثر صعوبة عندما تكون النتائج المستقبلية غير مؤكدة،كما هي الحال منذ ظهور التقارير عن فيروس كورونا المستجد Novel coronavirus للمرة الأولى. ويعود أحد الأسباب إلى أن التحيزات الإدراكية للقرار Cognitive decision biases الخاصة باتخاذ القرار من المرجح أن تظهر في بيئات شديدة التغير وعالية التوتر، مما يؤثر في القرارات بطرق ضارة.

وحدد مجال الاقتصاد السلوكي Behavioral economics، بقيادة عالمي النفس الاجتماعي دانيال كانيمان Daniel Kahneman وآموس تفرسكي Amos Tversky، عدداً من الانحيازات الإدراكية التي تؤثر في اتخاذ القرار، بطريقة سلبية عادة. ولا توجد قائمة نهائية بانحيازات كهذه، لكن ويكيبيديا Wikipedia تسرد 124 تحيزاً مرتبطا باتخاذ القرار. ومن الحكمة أن نتمعن في معظم الطرق التي تشوه بها الأدمغة البشرية عمليات اتخاذ القرار؛ وربما من المدهش أن يكون أي قرار جيد قد اتُّخِذ يوماً ما.

لقد كنت أُمعن التفكير في كل انحيازات اتخاذ القرار التي ظهرت بفعل بكوفيد-19. ففي الولايات المتحدة ظهرت انحيازات اتخاذ القرار متعددة الأنواع فيما بين بعض قادتنا السياسيين وكذلك الجمهور عموما. ولعل الإشارة إلى هذه الأنواع ستحسن عمليات اتخاذ القرار لنا جميعاً — بمن في ذلك السياسيين الذين يتخذون قرارات واسعة النطاق تؤثر في الملايين، وقادة الأعمال الذين يتخذون قرارات تؤثر في مؤسساتهم والعديد من الأطراف المعنية، وأولئك الذين يتخذون قرارات تؤثر في أنفسهم وعائلاتهم.

الانحيازات الشائعة التي أطّرت تفكيرنا بخصوص كوفيد-19

يكون المعتقد والحدس اللذان تحركهما العاطفة قويين في توجيه الأشخاص نحو قرارات أقل من أن تكون قرارات مُثلى. ومن خلال فهم تحيزاتنا نمتلك فرصة أفضل لتهدئة هذه العواطف والتحرك نحو خيارات أفضل.

وأسردُ هنا الانحيازات التي أعتقدُ أنها الأكثر صلة بالقرارات التي نحتاج إلى اتخاذها حول كوفيد-19 بالترتيب التقريبي لشيوعها وأهميتها. (هناك الكثير من أنواع الانحياز وإذا أدرجتها أبجدياً، ربما لا تجدون تلك المهمة بينها!)

الانحياز إلى الوضع الراهن Status quo bias. وجدتُ نفسي مذنباً بهذا الأمر عدة مرات في المراحل الأولى من الجائحة. وينطوي التحيز إلى الوضع الراهن على اعتبار الوضع الراهن مثالياً وأي شيء مختلف خسارة. ووجدتُ نفسي أقول: ”لقد خططنا لهذه الفعالية، لذلك يجب أن نعقدها“. وكان عدد من عملائي الذين خططوا لفعاليات يتذمرون من الأمر نفسه، إذ فشلوا في التكيف مع الواقع الجديد.

وتتمثل طريقة التخلص من هذا الانحياز بأن نسأل أنفسنا: ”هل كنتُ لأخطط لهذه الفعالية/الرحلة/الاجتماع نفسه حالياً، في ضوء وضع اليوم“؟ وفي معظم الحالات عليك أن تدرك أن التكيف مع الواقع الجديد، أي إلغاء خططك أو تعديلها، هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله وهو ليس بتلك الصعوبة.

التحيز السياسي Political bias. في حين أن فيروس كورونا ليس مُسيّسا، إلا أن الناس مُسيّسون، إذ إن الجانب السياسي يؤثر في كيفية تفسيرهم للمعلومات واتخاذهم للقرارات. ففي الولايات المتحدة كان من اللافت للنظر مدى ارتباط الآراء السياسية في البداية ارتباطا وثيقا بالآراء حول ما إذا كان فيروس كورونا يُعتبَر تهديداً خطيراً (على الرغم من أن مواقف الأحزاب تبدو كأنها متقاربة في شأن ذلك التهديد)، وما هي الإجراءات التي ينبغي اتخاذها فيما يتعلق به، وما مدى جودة قيادة الحكومة الفيدرالية والرئيس الأمريكي لنا خلال الأزمة.

في حين أن فيروس كورونا ليس مُسيّسا، إلا أن الناس مسيّسون — إذ إن الجانب السياسي يؤثر في كيفية تفسيرهم للمعلومات واتخاذهم للقرارات. أما المشهد الإعلامي ذو المنافذ الجذابة الموجّهة للمجموعات السياسية المتباينة؛ فيؤجج التحيز.

أما المشهد الإعلامي المنقسم انقساما متزايدا إلى منافذ تجتذب المجموعات السياسية المختلفة؛ فقد أجج التحيز. وأنتم تعرفون النمط: استضافت فوكس نيوز Fox News في البداية العديد من المعلقين الذين جادلوا في أن كوفيد-19 كان خدعة مناهضة لترامب، في حين أمضت إم أس إن بي سي MSNBC وسي إن إن CNN كثيراً من الوقت في انتقاد استجابة إدارة ترامب للفيروس.

وفي أوقات كهذه قد يكون من المفيد لنا جميعاً أن ندلي باعترافات، مهما كان مزعجة (”بعد كل شيء، أعتقدُ أن هذا الفيروس لم يكن خدعة ديمقراطية“، أو ”نفى ترامب في البداية خطورة الفيروس، لكنه يبدو منخرطاً في معالجته الآن“). ولعل مراجعة مواقع التحقق من الحقائق مثل بوليتيفاكت PolitiFact وفاكت تشك دوت أورغ FactCheck.org توفر ترياقاً لهذا الانحياز، وكذلك تخصيص وقت أكبر لمتابعة القصص الإخبارية وليس لأعمدة الرأي.

 الانحياز التأكيدي Confirmation bias. يُعَد الانحياز التأكيدي أحد انحيازات اتخاذ القرار الأكثر شيوعا، وفي هذا النوع من التحيز نبحث عن المعلومات التي تدعم وجهات نظرنا الخاصة ونعطيها أهمية أكبر. وهي حالة أكثر عمومية من التحيز السياسي.

والانحياز التأكيدي فيما يتعلق بالجائحة يلقى دعماً مما يُسمَّى جائحة المعلومات Infodemic — أي المعلومات الخاطئة المتعلقة بكوفيد-19 والشائعة في محتوى مواقع التواصل الاجتماعي. فإذا كنت منحازا ضد الصين، مثلاً، ربما شعرت بالراحة عند قراءة حسابات مواقع التواصل الاجتماعية (وتغريدات ترامب) التي أكدت على الأصول الصينية لفيروس كورونا. وإذا كنت منحازا ضد الولايات المتحدة، فقد تصدق رسائل مواقع التواصل الاجتماعي التي تشير إلى أن الولايات المتحدة طورت الفيروس وزرعته في ووهان بالصين.

وعموما، فإن العامل الرئيسي لتجنب الانسياق وراء الانحياز التأكيدي هو البحث عن المصادر التي قد تتعارض مع انحيازك، وكذلك تلك التي تعتمد على خبرة موثوق بها ومدعومة بالبيانات. وفي حالة فيروس كورونا، فإن مصادر المعلومات الموضوعية -مثل الموقع الإلكتروني المخصص لفيروس كورونا التابع لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها Centers for Disease Control and Prevention، والموقع الإلكتروني المكافئ لمنظمة الصحة العالمية World Health Organization- قد تقدم إليك أدلة جيدة. وقد تكون صفحة ”دحض الخرافات“ Myth Busters التابع للموقع الإلكتروني للمنظمة مفيدة على وجه الخصوص.

إرشادية التوفر Availability heuristic. إن جائحة ”كوفيد19-“ مسألة معقدة ومتعددة الجوانب. ووجد العديدون في بدايتها أنها قضية “متاحة” أكثر للنقاش، أي أن تداولها سهل، من خلال مناقشة قصص الأشخاص المشهورين الذين أُصِيبوا بالفيروس في الأسابيع الأولى في البلدان الغربية. وكان من بينهم مشاهير (الممثلان توم هانكس Tom Hanks وريتا ويلسون Rita Wilson، والرياضي كيفن دورانت Kevin Durant، ومغني الأوبرا بلاسيدو دومينغو Plácido Domingo، ورئيس جامعة هارفارد Harvard University لورانس باكو Lawrence Bacow) وقادة سياسيون (السناتور راند بول Rand Paul، وصوفي Sophie زوجة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو Justin Trudeau، والأمير تشارلز Prince Charles ورئيس الوزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون Boris Johnson).

ولكن توفر المعلومات عن المصابين البارزين بالفيروس قد يسلط الضوء على العوامل غير النمطية في الجائحة ويجعلنا نغفل الأنماط الأكثر أهمية حول انتشار المرض. عموما، بدلاً من ذلك قد يكون من المفيد الانتباه للبيانات المتوفرة حول وضع ما أكثر من قصص النوادر التي تتردد كثيرا.

أثر التأطير Framing effect. من بين أقوى التأثيرات في أي قرار يجب أن يُبتّ فيه هو كيفية صياغة المسألة التي يجب اتخاذ قرار بشأنها. ومع بدء ظهور حجم تأثير فيروس كورونا في الولايات المتحدة، صارت المسألة الهائلة وذات العواقب حول كيفية إدارة الفيروس تُصاَغ -في شكل متزايد- على أنها مسألة ”إنقاذ الاقتصاد أو إقفال كل شيء“، مع ضغط الرئيس ترامب من أجل الخيار الأول (على الأقل في البداية) وتشديد خبراء الصحة العامة والمسؤولين المحليين إلى حد كبير على الجانب الثاني.

التأطير الثنائي الأطراف (إما هذا أو ذاك) هو توجه دون المستوى الأمثل في الأغلب. فهو يخفي إمكانية وجود بدائل أخرى، أو السعي إلى قرار واحد في بعض الأماكن أو الحالات، وإلى قرار مختلف في حالات أخرى. وإذا كان ذلك ممكناً، فكر في عدة صيغ مختلفة من القرار نفسه — ويُفضَّل أن يكون بعضها ذا نتائج غير ثنائية.

أثر العربة Bandwagon effect. يوماً بعد يوم خلال مسار الجائحة، من المرجح أنك لاحظت هيمنت أفكارا مختلفة على النقاش لبعض الوقت، ثم لا تلبث أن تتراجع مع رواج أفكار أخرى. وفي الأغلب تتزايد حوارات موضوع الساعة هذه بسرعة، وتكون مليئة بعدم الدقة، حتى يسد الطريق عليها تفكيرٌ أكثر وضوحاً.

مثلاً، شاعت إثارة متزايدة في شأن عقار هيدروكسيكلوروكوين Hydroxychloroquine القديم المضاد للملاريا (أو غيره من العقاقير ممزوجة به) باعتباره ترياقاً محتملا للفيروس؛ وقفز الرئيس ترامب إلى هذه العربة في وقت مبكر وبصوت عال. وفي حين أن هذا العقار بالذات يستحق بالتأكيد مزيداً من الأبحاث المنهجية، فقد يكون الانضمام إلى تلك العربة غير مناسب. ففي ظروف عدم اليقين الكبير بصورة خاصة، حيث قد يتطور تفكير الخبراء بسرعة مع توفر بيانات جديدة، من المهم أن تبقى على اطلاع بما تنصح به المصادر الموثوق بها، وإدراك أن نصائحهم قد تتغير. وتذكر أن العلماء أنفسهم قد يعكسون مواقفهم الشخصية، كما فعلت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها من خلال عدم التشجيع أولاً على ارتداء الناس الكمامات على نطاق واسع، لكن لتعود إلى التشجيع على ذلك بقوة في وقت.

انحياز الإسناد العدائي Hostile attribution bias. عندما لا يتفق الآخرون معنا في وقت التوتر الشديد، نميل إلى ننسب إليهم النية العدوانية. فمثلاً، ربما كان الأشخاص الذين تجمعوا في الخارج في وقت مبكر أثناء أزمة الفيروس يسعون إلى التواصل مع الطبيعة أو العزلة خارج حدود منازلهم، لكن وسائل الإعلام وواضعي السياسات اتهموهم بالانتهاكات المتعمدة للتوصيات في شأن التباعد الاجتماعي Social-distancing.

افتراض وجود نية عدوانية لا يؤدي إلاّ إلى رفع مستويات التوتر في كل شخص. وبما أنك لا تعرف تفاصيل مواقف الآخرين أو دوافعهم، افترض أفضل النوايا ما لم يكن لديك دليل قاطع على خلاف ذلك.

إهمال الاحتمال Neglect of probability. علم الصحة العامة وعلم الأوبئة مجالان يعتمدان على الاحتمالات، وكذلك المحاولة الفردية لتجنب العدوى بميكروب. ولا يمكن لأي علاج أو تدخل أن يخفض الاحتمال ذا الصلة إلى الصفر أو يرفعه إلى 100%؛ ويمكن للمرء فقط أن يقلل الاحتمال أو يرفعه ضمن حدود الاحتمال. ومع ذلك، فإن العديد من الأشخاص العاديين لا يشعرون بارتياح من التفكير الاحتمالي، ويفضلون بشدة التمسك بالأحكام المطلقة.

في حالة كوفيد-19، يكون التفكير الاحتمالي والاتخاذ الاحتمالي للقرارات أكثر صعوبة بسبب نقص البيانات الجيدة عن كيفية انتقال الفيروس، ومعدلات الوفاة و / أو العلاج المرضى المصابين في المستشفيات، واستراتيجيات العلاج الأكثر فاعلية. وعندما يكون هذا النوع من البيانات متاحاً، فلنأمل بأن يستخدمها واضعو السياسات استخداماً فاعلاً. وفي سلوكياتنا الفردية ولأننا لا نستطيع أن نعرف على الإطلاق أين تكمن الميكروبات، يتلخص السلوك المعقول الوحيد -ما عدا العزل الذاتي الكلي- في محاولة تقليل احتمال الإصابة بالعدوى بواسطة اتباع الإرشادات الموصى بها عادة.

الانحياز إلى الوضع الطبيعي Normalcy bias. أما بالنسبة إلى الانحياز الأخير الذي سنستعرضه، فدعونا ننظر في انحياز كان له أثر كبير في كيفية وصولنا إلى هنا. فالانحياز إلى الوضع الطبيعي هو الاعتقاد أن الأمور ستستمر بالسير كما كانت في الماضي، مما يؤدي إلى عدم الرغبة أو عدم القدرة على التخطيط لظروف غير متوقعة. وعلى الرغم من حدوث أوبئة عالمية في الماضي (الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918، مثلاً)، وتفشٍّ أحدث لأمراض أخرى خطيرة من فيروس كورونا (مثلاً: مرض الالتهاب الرئوي الحاد SARS، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية MERS)، بدا أن معظم القادة السياسيين ورجال الأعمال تجاهلوا إمكانية حدوث حدث آخر من الأحداث الوبائية المرتبطة بفيروس كورونا. فلم تشيد الدول مرافق طبية، ولم تُخزَّن معدات طبية كافية، وتُجوهِلت خطط الطوارئ.

كان للانحياز إلى الوضع الطبيعي أثر كبير في كيفية وصولنا إلى هنا. وهو الاعتقاد أن الأمور ستستمر بالسير كما كانت عليه في الماضي، مما يؤدي إلى عدم الرغبة أو عدم القدرة على التخطيط لظروف غير متوقعة.

ولعل هذا الانحياز بالذات هو أهم ما ينبغي أن نتذكره خلال التفكير في مستقبل يتجاوز الأزمة الحالية. فعندما ينتهي كل شيء، نحتاج إلى أن نفهم بالتفصيل كيف -وعبر من- تمكن هذا الانحياز من أن يحكم تفكيرنا.

يشير كانيمان إلى أن معرفة انحيازات اتخاذ القرار عموما لا تعني بالضرورة أن أياً منا،كمتخذين للقرار، يمكنه تحديد تحيزاتنا الشخصية. ومع ذلك، يمكننا أن نطلب إلى أشخاص آخرين، مستشار موثوق به أو اثنين، أن يشيروا إليها. وإذا أجرت المؤسسات مناقشات منهجية حول عمليات اتخاذ القرار قبل تحديد خياراتها، فقد يدرك المتخذون الفرديون للقرار أنهم وقعوا في تحيز.

وهناك أيضا، لكن، إمكانية السماح لآلة باتخاذ القرار استناداً إلى الإحصائيات أو الاستدلال. ومع الوضع السريع التغير لكوفيد-19، ربما لا يكون لدينا ما يكفي من البيانات السابقة أو القواعد الجديرة بالثقة لتشغيل القرارات المؤتمتة. وفي هذه الأزمة، ولا شك في الأزمات المستقبلية، سيكون علينا أن نعتمد على البشر الذين يبذلون جهوداً حثيثة لتجنب المزالق الشائعة لاتخاذ القرار.

توماس إتش دافنبورت Thomas H. Davenport (@tdav)

توماس إتش دافنبورت Thomas H. Davenport (@tdav)

الأستاذ المتميز للرئيس لتكنولوجيا المعلومات والإدارة في كلية بابسون، وهو كذلك زميل في مبادرة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology حول الاقتصاد الرقمي ومستشار أول في ممارسة التحليل والإدراك لدى ديلويت Deloitte. للتعليق على هذا الموضوع: http://sloanreview.mit.edu/x/61420.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى