أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
إعادة هيكلةرقمنةقيادة

ثلاثة عوامل للعمل الافتراضي الناجح

عدد أكبر من أي وقت مضى من الموظفين يعمل الآن من المنزل. وستساعدهم التكنولوجيا والروابط الاجتماعية وإجراءات روتينية جديدة على النجاح في عملهم.

ليندا غراتون

إن تجاربنا التراكمية حول ما يساعد على نجاح العمل الافتراضي، والعراقيل التي تعترض سبيله، ستوفر لنا رؤية قيّمة في وقت تدفع فيه أزمة كوفيد-19 إلى قفزة في العمل عن بعدRemote working. ففي السنوات الأخيرة تكيف الملايين حول العالم مع العمل الافتراضي. وفي وقت مبكر من العام الحالي انضم إليهم عشرات الملايين من الآخرين. واضطرت بعض المؤسسات -التي لم تشجع العمل الافتراضي سابقاً- إلى احتضانه، ومع انحسار الأزمة من المحتمل أن نرى تحولاً طويل الأمد يدفع إلى مزيدٍ من العمل عن بعد.

الآن، من الأهمية بمكان الالتفات إلى دروس الماضي، والتمعن في كيفية الاعتراف بأدوار التكنولوجيا والاحتياجات الاجتماعية وإيقاعات العمل والموازنة بينها. فمن شأن هذه الدروس أن تحفز التغييرَ الطويل الأمد.

الموجات السابقة من العمل الافتراضي

فلنقدم أولاً تاريخاً مختصراً. فقد تكيف الناس مع العمل الافتراضي في ثلاث موجات. وفي كل موجة، فهموا الفوائد التكنولوجيا وقيودها، والأثر الاجتماعي للتعاون عن بعد، وكيف يؤثر تصميم العمل في الإنتاجية.

وبدأ العمل الافتراضي جدياً في ثمانينات القرن العشرين، تدفعه التطورات التكنولوجية. واستغل المهنيون المستقلون (العاملون لحسابهم الخاص) Freelancers —أي الرواد الاجتماعيون للعمل الافتراضي— التجسيدات الأولى للحواسيب الشخصية لتصميم المنتجات، وتطوير الكودات Codes، وكتابتها وتحريرها من منازلهم. ومن منظور التوازن بين العمل والحياة، أحبوا الاستقلالية Autonomy والمرونةFlexibility، وبدؤوا يعلمون الآخرين كيف يهيئون فضاءات العمل في المنزل.

وفي الموجة الثانية التي بدأت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تقريباً، توسعت ممارسة العمل الافتراضي عن بعد متجاوزة المهنيين المستقلين لتشمل الشركات. وبدأ شعار شركات التكنولوجيا “في أي وقت وفي أي مكان” يصبح واقعا مُكرّسا. وحول العالم بدأت الشركات تسمح للموظفين بالعمل من المنزل. وبدأت أيضاً تتوقع منهم العمل من المنزل في أي ساعة من ساعات اليوم. ودفعت القدراتُ التوقعاتِ أبعد فأبعد. ففي عام 2003 تفشي سارس SARS (مرض الالتهاب الرئوي الحاد Severe acute respiratory syndrome) وانتشر في 29 بلداً، مما أعطى أجندةَ العمل الافتراضي زخماً.

ولكن، على الرغم من أن ‹العمل عن بعد› كان يزداد رواجاً أكثر فأكثر، إلا أن المديرين شعروا بقلق حول كيفية إدارة أداء الموظفين الذين يؤدون عملهم بعيداً عن أنظارهم في أي وقت وأي مكان، وحول كيفية قياس هذا الأداء. وبرزت مخاوف من أن الموظفين -حين عندما يكونون معزولين- تتراجع قدرتهم على العمل في شكل تعاوني مع الآخرين وتقل قدرتهم على الابتكار. بل قد يشيع الشعور بالوِحْدة في العمل الافتراضي.

وهذا نوعا ما كان الدافع نحو العمل المشترك الافتراضي. فبسبب القلق من سلبيات الحياة العملية المنعزلة، بدأ الأفراد بالتجمع في فضاءات العمل المشترك. فقد رغبوا في كل من مرونة العمل الافتراضي ورفقة زملاء العمل. وفي الوقت نفسه، بدأت شركات مثل تاتا للخدمات الاستشارية Tata Consultancy Services (اختصارا: الشركة TCS) ومقرها الهند، ببناء منصات مؤسساتية شاملة Enterprisewide platforms مكنت الموظفين جميعاً، أينما كانت مواقعهم، من العمل جماعياً، بأدوات Toolsمُصمَّمة لتسهيل التكليف بالمهام Assign tasks وإدارة الأداء Manage performance.

هذا التطور شكّل الوضع الحالي اليوم: نشوءَ منصاتٍ وأدوات تعاونية متقدمة، وفهما لأهمية التواصل وجهاً لوجه من أجل الرفاه العاطفي.

الموجة الحالية: التجارب الجماعية واسعة الانتشار

إن التحديات التي نواجهها حاليا كمديرين وموظفين هي تحديات غير مسبوقة. ففي الأشهر الأخيرة بدأ الكثيرون بالعمل من المنزل بعد إبلاغهم بذلك قبل يوم أو يومين، وتأججت معاناتهم من الوضع الجديد بفعل سرعة التحول والشعور بالصدمة وطبيعة التحول الشاملة — فقد تأثر الجميع تقريباً.

وعنى ذلك أن العاملين من المنزل Home-based workers لم يعودوا يقتصرون على مجموعات الوالدين الشباب الذين يفضلون العمل من المنزل [لرعاية أطفالهم]، أو موظفين في شركات تجرب برامج يمضي فيها الموظفون أربعة أيام في المكتب ويوماً في المنزل، أو مواطنين في بلدان مثل الدانمارك حيث العمل المرن Flexible working هو المعيار. بل طال الوضع الجميع وفي كل مكان.

فصرنا نواجه تحديات متشابهة، وعلينا جميعاً أن نكون مبتكرين ومتكيفين في استجاباتنا. ولكن، في حين أن التحديات استثنائية على صعيد السرعة والنطاق، فلنتذكر أننا لم ننتقل إلى مجال غير معروف على الإطلاق.

ثلاثة عوامل رئيسية للعمل الافتراضي

تعلمنا من الموجات الثلاث السابقة للعمل الافتراضي أننا بحاجة إلى الإقرار بعوامل ثلاثة والموازنة بينها وهي: التكنولوجيا، والاحتياجات الاجتماعية، وإيقاعات العمل.

التكنولوجيا: إبقاؤها حدسية والاستعداد لتجربتها TECHNOLOGY: Keep it intuitive and be prepared to experiment. لطالما كانت التكنولوجيا عامل تمكين للعمل الافتراضي. ونعرف أنها تلبي احتياجات الموظفين على النحو الأفضل حين تكون جزءاً من تدفق منتظم للعمل وتطابق المهمة المطلوبة. وهذا يعني، مثلاً، استخدام منصات جماعية للعمل على المشروعات، والتحول إلى الفيديو من أجل حوارات أكثر تفاعلية، واستخدام الهاتف للمواكبة.

ويمكن لهزات كبرى كهذه أن تقدم فرصة لتجريب التكنولوجيا، ووضح بعض المتبنين المبكرين -لمثل هذه التكنولوجيا- الشكل الذي تتخذه مثل هذه التجارب. خذوا، مثلاً، الشركة العالمية للمحاماة دنتونز Dentons التي أطلقت المشروع الشامل الكبير Big Inclusion Project في اجتماع شارك فيه معظم موظفي الشركة All-hands meeting على الإنترنت في جلسة عصف ذهني شارك فيها الجميع واستمرت لـ72 ساعة. ولما كان الاجتماع قد تمخض عن أكثر من ثلاثة آلاف إجراء Action وفكرة Idea، فقد شكّل كل ذلك زخماً ضخماً للتغيير. كما عزز أيضاً الثقة بالعمل الافتراضي بين صفوف المشاركين في هذه الجلسة.

الاحتياجات الاجتماعية: إعادة تخيل فضاء العمل من المنزل وأنسنته SOCIAL NEEDS: Reimagine the home workspace and make it human. تعلمنا من أوائل المهنيين المستقلين (العاملين لحسابهم الخاص) أن فضاءاتهم المنزلية كانت ذات دور حاسم. فقد حققوا أفضل نتائج حين كانت فضاءات عملهم محمية من الإلهاءات الخارجية، ووفرت وصولاً سهلاً إلى الأدوات الخاصة بمجالهم، وكانت مخصصة في شكل حصري للعمل. ولا شك في أن الأمر محير في الأسر التي يعمل فيها الوالدان ويكون فيها الأطفال في عطلة دراسية. وتطلبت هذه الظروف الفريدة تعاطفاً ورشاقة معاً من المديرين في حين تكيف الموظفون بسرعة مع هذه الظروف الجديدة.

طورنا جميعاً عادات عمل سيئة — اجتماعات أكثر مما ينبغي، وتنقلات طويلة، وعدم تخصيص وقت كاف للعائلة. واللحظة الراهنة تمنحنها فرصة .لإعادة ضبط طريقة عملنا

 

وتعلمنا أيضاً من الموجة الثالثة أن مراكز العمل المشترك الافتراضي أُنشِئت لموازنة انعزال العمل من المنزل. واحتاج الموظفون الذين تجمعوا في هذه المراكز المادية المحلية إلى الشعور بأنهم جزء من مجتمع صغير أكبر.

وبالنسبة إلى كثر من الموظفين، لم يكن ممكناً الحفاظ على هذه الروابط الاجتماعية. وخلال ندوتي الأخيرة عبر الإنترنت حول العمل الافتراضي، شارك تقريباً الثلاثة آلاف شخص ممن حضروا المحاضرة في استطلاع للرأي حول شعورهم. وحين سُئِلوا أن يختاروا أي العبارات تصف أفضل من غيرها تجربتهم في العمل الافتراضي، اختار 2% فقط العبارة التالية: “أجد التكنولوجيا محبطة”. واختار آخرون ”تواصل عائلتي تشتيتي“ (10%)، و”يعطيني الأمر الوقت لأفكر وأركز حقاً“ (15%)، و”أحب الاستقلالية والمرونة“ (25%). ولكن النسبة الأكبر جداً (46%) أشارت إلى عزلتها الاجتماعية، واختارت العبارة “يعمل الأمر جيداً — لكنني أفتقد التفاعل الاجتماعي في المكتب“.

لذلك، فمن الحاسم أن نعثر على طرق أخرى لأنسنة فضاء العمل. وستكون أنظمة التواصل مثل الفيديو أساسية، إلى جانب تمكين الموظفين من المشاركة في محادثات غير رسمية تشبه تلك التي يجرونها قرب براد المياه في المكتب، وفي استراحات شرب القهوة، أو لقاءات افتراضية بعد ساعات العمل.

إيقاعات العمل: احتضن طقسا يوميا وركّز على القيم WORK RHYTHMS: Embrace a daily ritual and focus on values. تعلمنا من العاملين الافتراضيين أنهم يحققون النجاح الأكبر حين يتوفر إيقاع طبيعي لجدول العمل اليومي وطقوسهم. وهذا قد يعني ارتداء ملابس العمل أو عقد اجتماعات لتبادل الأفكار عند التاسعة صباحاً والرابعة بعد الظهر. وقد يعني أيضاً البدء دائماً بالمشروعات بنقطة اتصال بالفيديو وجدولة اجتماعات إضافية لتبادل الأفكار بالفيديو في منتصف كل مشروع وصولاً إلى نهايته. والتركيز هو على متابعة سير العمل Checking in وليس المراقبة Checking up.

ما بيّنته تجربة شركات مثل تاتا للخدمات الاستشارية (الشركة TCS) بخصوص منصاتها الشاملة للمؤسسة يتلخص في أهمية بناء ممارسات تعاون قوية، مثل تحديد الغايات Goals والأدوار الرئيسية Key roles، والتحديد الواضح للحدود Defining boundaries ونطاقات الصلاحيات Spans of control، وتوضيح المهام Tasks والعمليات Processes، وقياس الأدوار Roles والالتزامات Commitments، وذلك منذ البداية. ففي الأوقات التي يكون فيها الموظفون بعيدين عن العين، يُشدِّد قادة الشركة TCS على أهمية التركيز على القيم. فبالنسبة إليهم، تشكل الثقة عاملاً أساسياً. إذ يتعين أن يثقوا بأن الموظفين العاملين من المنزل مشاركون ومنتجون. ويصفون الأمر قائلين: ”الثقة بالأشخاص حتى يثبتوا بأنهم غير جديرين بالثقة“.

التوقعات المستقبلية

بالتطلع إلى الأمام، واضح أننا حين تنتهي الظروف الراهنة كلها لن نعود إلى النقطة التي كنا عندها قبلها. قال لي أحد رجال الأعمال الصينيين في مطلع مارس أثناء اتصال بالفيديو: ”في عالم ما قبل الجائحة“، كنت أتنقل بين هونغ كونغ وبكين مرة في الأسبوع لحضور بضعة اجتماعات. والآن أرى أنني أستطيع عقد أربعة أو خمسة اجتماعات في اليوم. ”لقد ازدادت إنتاجيتي ازديادا كبيرا“. هل سيعاود السفر كل أسبوع حين تعود الصين إلى وضعها الطبيعي؟ أشك في ذلك.

لقد طورنا جميعاً عادات عمل سيئة. فجدولتنا لاجتماعات أكثر مما ينبغي، وتنقلاتنا الطويلة، وعدم تخصيصنا وقتاً كافياً للعائلة تُعَد من الأسباب الشائعة للشكوى التي لطالما قال الموظفون إنهم يتمنون تصحيحها. وحذرتنا بصماتنا الكربونية Carbon footprints وكذلك إنهاك صحتنا العقلية من أن هذا السلوك خاطئ. ولكن هذه العادات عادات عمل متأصلة بعمق ويصعب تغييرها.

واللحظة الراهنة تمنحنا فرصة لتغييرها وإعادة ضبط طريقة عملنا. لا أعتقد للحظة واحدة أن جائحة كوفيد-19 تمثل نهاية العمل في الموقع نفسه — فنحن البشر نزدهر بفضل التفاعل وجهاً لوجه، بل تتطلب روحنا المُبتكِرة هذا التفاعل. ولكن ستبين لنا هذه اللحظة -وبوضوح أكثر من أي وقت مضى- كيف يمكننا احتضان كلٍّ من العمل الافتراضي وطريقة العمل في الماضي ونحصل على أفضل ما في هاتين الطريقتين. وفي عالم ما بعد الجائحة، فإن الشركات الرائدة التي ستمزج بين هاتين الطريقتين من طرق العمل ما ستتعافى أفضل مما سواها، وستكون أكثر مرونة في المستقبل.

ليندا غراتون Lynda Gratton (@lyndagratton)

ليندا غراتون Lynda Gratton (@lyndagratton)

أستاذة الممارسة الإدارية في كلية لندن للأعمال London Business School ومديرة برنامج الكلية لاستراتيجية الموارد البشرية في تحويل المؤسسات. وهي المؤلفة المشاركة لكتاب ـ الحياة الطويلة الجديدة: إطار للازدهار في عالم متغير The New Long Life: A Framework for Flourishing in a Changing World (Bloomsbury, 2020). للتعليق على هذا الموضوع: http://sloanreview.mit.edu/x/61414.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى