نزعزع أو لا نزعزع؟
ليست زعزعة الشركات الناشئة دائماً الاستراتيجية الصحيحة. إنها خيار.
جوشوا غانز
صار مصطلح الزعزعة Disrupt مرادفاً لشركة ناشئة طموحة من أي نوع. وثمة تفانٍ قريب من التقديس في شأن فكرة مفادها بأن تحول شركة ما إلى مزعزعة هو المسار الأفضل للنجاح — والشاهد على ذلك، مثلاً، المؤتمر السنوي تك كرانش ديسرابت TechCrunch Disrupt. ولكن أغلب دراسات الزعزعة ركزت على الأطراف التي عانت الزعزعة — لماذا تجد الشركات التي تبدو في مقدمة قطاعها نفسها فجأة في محنة. باختصار، تصبح الشركات الرائدة في صناعة ما عُرضة للزعزعة عندما تعلق في نموذج أعمالها المربح Profitable business model، فتجد نفسها عاجزة عن رؤية عدم التوافق بين ما تعرضه وما يريده العملاء الحاليون أو المستقبليون في واقع الأمر أو عاجزة عن الاستجابة له. وفي الحالات كلها تقريباً، تُعجِّل بحدوث زعزعة من قبل فرصة تكنولوجية جديدة.
ولكن، وحتى لو كانت الشركات القائدة للسوق في صناعة ما عاجزة عن استغلال هذه الفرص الجديدة، فهل نستطيع أن نسلم بأن غيرها، وأبرزها الشركات الداخلة حديثاً إلى عالم ريادة الأعمال، ستتمكن من تحقيق هذه الغاية؟ وحتى لو تمكنت من اغتنام هذه الفرص، فهل ينبغي لها ذلك؟ تُعَد الزعزعة خياراً. ولكنها فقط واحدة من العديد من الخيارات القابلة للتطبيق بالنسبة إلى الشركات الناشئة. وبدلاً من السير بتفكير أحادي على المسار نحو الزعزعة المحتملة، تستطيع الشركات الجديدة في مجال ريادة الأعمال Entrepreneurial companies تقييم المفاضلات بين الزعزعة وغير ذلك من الاستراتيجيات ويتعين عليها القيام بذلك. وسيسمح لها ذلك باختيار استراتيجية مناسبة لهذه الأعمال الناشئة Startup، في تلك السوق وفي ذلك الوقت، وأن تتعلم أثناء تحويلها فكرتها إلى فكرة تجارية Commercializes. نزعزع، أو لا نزعزع؟ هذا سؤال بالغ الأهمية. وإليكم كيفية التفكير في الأمر.
قصة شركتين ناشئتين
حتى الأيام الأولى من الزعزعة شهدت أمثلة صارخة على مسارات بديلة كان يمكن اختيارها. ففي أواخر تسعينات القرن العشرين وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت شبكة الإنترنت قد صارت تجارية للتو، وبُذِلت محاولات عديدة لاستغلال ذلك كفرصة تكنولوجية. وكان أحد المجالات التي حظيت بالاهتمام الأولي هو احتمال تسوق البقالة عبر الإنترنت. وبرزت شركة واحدة على وجه الخصوص باعتبارها مزعزعاً محتملاً في بيع البقالة بالتجزئة. وكما سنرى، لم تنجح الأمور حقاً. والأكثر من ذلك أن هذه الدروس، كما سيُشرَح لاحقاً، لم تُتعلَّم (بعد).
وربما كانت ويبفان Webvan بمثابة الشركة المثالية للبيع الإلكتروني، إذ تمتعت باكتتاب مبدئي عام تجاوز أربعة بلايين دولار قبل أن تفلس بعد ثلاث سنوات فقط، في عام 2001. وخلال سنوات عملها، عرضت ويبفان خدمة فريدة من نوعها، كانت على أكثر من نحو، خدمة محبوبة. فقد كان يمكن للعملاء تسجيل الدخول إلى موقعها الإلكتروني، وشراء البقالة عبر الإنترنت، وتُسلَّم إلى بابهم — في مقابل مبلغ أقل مما كانوا سيدفعونه في السوبرماركت. وأبرزت إعلاناتها انزعاج المستهلكين من الوقوف في صفوف الانتظار في المتجر. وكانت خطة الشركة تتلخص في توليد ما يكفي من الحجم لاستخدام مراكز التوزيع المحلية لشحن البضائع إلى الناس وتجاوز محال السوبرماركت بالكامل، والادخار فيما يخص التخزين والإيجار وبالطبع المتاجر الفعلية.
ولكن الخطة لم تنجح: لم تتمكن ويبفان من تسليم البضائع بتكلفة تسمح للشركة بالاستمرار بتقديم أسعار منخفضة. وكما تبين بعد ذلك، كان إنشاء سلسلة قيمة Value chain جديدة لتوزيع البضائع على العملاء أمراً مكلفاً، وانطوى على استثمارات ضخمة في مراكز للخدمات اللوجستية والتوزيع. وما لم يشتر العملاء مزيدا من البقالة مقارنة بالسابق، لم تصل ويبفان قط إلى حجم يبرر هذه التكاليف. وعلى الرغم من قيمتها المقترحة، لم تتمكن من اجتذاب العدد الكافي من المستهلكين، حتى في منطقة سان فرانسيسكو باي المحبة للتكنولوجيا، لتوليد وفورات الحجم Economies of scale. وبرزت مسائل أخرى، مثل سلسلة توريد المنتجات التي تحتاج إلى تبريد. وهذا كله عنى أن الشركة المزعزعة المحتملة انطفأت قبل أن تلاحظ محال السوبرماركت الفارق في صافي دخلها.
لقد بدا استخدام الإنترنت لتسوق البقالة فكرة جيدة. ولكن هل كانت استراتيجية تولي دور المزعزع الطريق الصحيح؟ نحن نعلم الآن أن الأمر لم يكن كذلك (على الأقل في ذلك الوقت). وشهد مشروع آخر في ريادة الأعمال، وهو بيبود Peapod، فرصة مماثلة لكنه اختار مساراً مختلفاً. فبيبود التي أسسها أخوان من آل باركنسون Parkinson في عام 1989، قبل الإنترنت التجارية، استخدمت في البداية الشبكات الحاسوبية Computer networking للسماح للمستهلكين بشراء البقالة من سلاسل السوبرماركت مثل جِويل Jewel، وكروغرز Krogers، وسيفواي Safeway. وفي عام 1996، ومع توفر الإنترنت بسهولة أكبر، أنشأت بيبود موقعاً عبر الإنترنت ووسعت نطاق شراكاتها في سلاسل السوبرماركت. وتلخصت الاستراتيجية في توظيف أشخاص للتسوق في محال البقالة بالنيابة عن عملاء بيبود. واشتملت الإعلانات مهنيين مشغولين، نساء في الأغلب، لم يكن لديهم الوقت الكافي لشراء البقالة. وفرض بيبود أجوراً في مقابل الخدمة.
مقارنة بويبفان، كانت استراتيجية بيبود غير مزعزعة بكل تأكيد. وكانت محال السوبرماركت شريكة لها، وليس منافسة سيكون مصيرها في نهاية المطاف مزبلة التاريخ. ولا شك في أن بيبود اجتذبت قدراً أقل من التمويل ولم تتمتع بوفرة مالية، لكنها لم تكن في حاجة إلى كثير — فرسالتها لم تكن تتلخص في بناء سلسلة قيمة جديدة بالكامل، بل في إدراج نفسها إلى سلسلة قيمة موجودة بالفعل. ولم يكن عملاؤها أولئك الذين يبحثون عن صفقة رابحة، بل أولئك الراغبين في دفع مبلغ إضافي في مقابل الراحة. أو بعبارة أخرى، وضعت بيبود نفسها عند الطرف الأغلى من السوق وليس عند الطرف الأرخص. ولم تفعل شيئاً كان بأي شكل من الأشكال يندرج تحت قواعد الزعزعة.
ووافقت الظروف بيبود. فهي انتقلت من اكتتاب مبدئي عام ناجح إلى النمو، إلى العمل مع بعض أصول التوزيع قبل أن تستحوذ عليها الشركة أهولد Ahold، مالكة ستوب أند شوب Stop & Shop، في عام 2000. وهي قائمة اليوم كشركة فرعية في تلك الشركة.
قصة شركتين ناشئتين أخريين
ليس مسار المزعزع مربحاً في كل الأحوال. فالمزعزع، كجزء من بنيته، يختار أن يتحدى أعمالاً راسخة، وفي بعض الأحيان نظاماً كاملاً، تحديا مباشرا. وليست المنافسة بالمهمة السهلة على الإطلاق، بل تتطلّب استثماراً حازماً وواضحاً. ويبدو أن إقامة شراكة داخل النظام تكون مساراً أسهل يتطلّب موارد أقل وقيمة متزايدة. ولكن ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كانت الشراكة تشكل مساراً إلى النجاح المستدام.
ومن المؤكد أن هذا كان واضحاً لمؤسس ويبفان لويس بوردرز Louis Borders، الذي أسس أيضاً سلسلة المكتبات بوردرز Borders التي حملت اسمه. فبحلول أواخر تسعينات القرن العشرين، بدأت مبيعات سلاسل المكتبات التقليدية تواجه تحديات من أحد المشاركين الجدد، أمازون دوت كوم Amazon.com. وتأسست أمازون Amazon في عام 1994 على يد جيف بيزوس Jeff Bezos، الذي انتقل إلى سياتل من وول ستريت، ليس لبيع الكتب، بل للاستفادة من الفرصة التي قدمتها الإنترنت. واختار الكتب لأنه اعتقد أنها ستكون سهلة الشحن من دون أن تتعرض لضرر، ولأن المستهلكين عرفوا ماذا يدفعون ثمنه، وكان من المكلف أن يخزن تجار التجزئة التقليديين العاملين في متاجر مادية مجموعةً كبيرةً ومتنوعةً من الكتب. وفي معادلة بيزوس كان التنوع يشكل أهمية أساسية؛ ومن ثم جاء اسم أمازون الذي يدل على الحجم الضخم.
كانت أمازون مزعزعة بالاختيار. وكان لديها موقعها الإلكتروني الخاص وحصلت على كتب في شكل مستقل عن بائعي الكتب بالتجزئة. بيد أنها عندما دخلت إلى هذا المجال، كانت هناك بضع سوابق. مثلاً، في عام 1992 أنشأ تشارلز ستاك Charles Stack بوك ستاكس أنليمتد Book Stacks Unlimited، وهي مؤسسة مقرها كليفلاند لطلب الكتب عبر الهاتف. وسرعان ما أسست موقعها الإلكتروني، بوكس دوت كوم Books.com، الذي عرض مجموعة كبيرة من العناوين لكنه حصل على كتبه من تجار التجزئة الحاليين. وبعبارة أخرى، إذا كانت أمازون ويبفان، كانت بوكس دوت كوم أقرب إلى بيبود. ولكن على النقيض من بيبود، كانت حياتها قصيرة نسبياً؛ فقد استحوذ على بوكس دوت كوم طرف فاعل عبر الإنترنت هو سندنت Cendant، وانتهى بها المطاف في يدي بارنز أند نوبل Barnes & Noble.
وقد يكون من المغري أن نحاول شرح هذه الحالات المتباينة بالإشارة إلى الإخفاقات بالتنفيذ في ويبفان وبوك ستاكس، أو بالإشارة إلى أن سوقي البقالة والكتب كانتا مختلفتين على صعيد «الوقت المناسب» لاستغلال الفرص المتاحة لكل من الشركتين باعتبارها شركة مُزعزِعة. ولكن هذه القصص في اعتقادي تحمل درساً آخر: لا يوجد شيء حتمي فيما يتصل بالزعزعة، وذلك لأن لا سبب مقنعاً يبرر تولي دور المزعزع بدلاً من دور آخر حين تبرز فرصة في مجال ريادة الأعمال. والدرس المستفاد هنا هو أن أي شركة تريد أن تكون مزعزعة لا بد من أن تخصص كل خياراتها الاستراتيجية نحو تحقيق هذه الغاية، كما فعلت أمازون. وعلى نحو مماثل، نجحت نتفليكس Netflix في زعزعة بلوكبستر Blockbuster (وسلاسل أخرى متخصصة بالفيديوهات في المجال السائد) جزئيا لأنها أدركت دائماً أنها تعمل لإنشاء سلسلة قيمة بديلة لمتاجر الفيديو. ولم تستسلم قطّ لإغراء المشاركة في حلول وسط تضمنت نقاط توصيل واستلام مادية (وهو ما حدث أثناء عمليات تأجير «آلات البيع» مثلما حاولت رد بوكس RedBox).
والاستنتاج؟ لا ينبغي لاختيار أداء دور المزعزع أن يكون الخيار الأول لشركة ناشئة. إنه طريق صعب — أصعب وأطول وأكثر تطلّباً للاستخدام المكثف للموارد مما يدركه العديد من الداخلين الجدد. وهذا لا يعني أن لا مسار قابلاً للاستمرار يفضي إلى الزعزعة، لكن الزعزعة لا بد من أن تكون خياراً قيد التفكير، وأن هناك بدائل أخرى. وينبغي للشركات الناشئة أن تزن كل سيناريو بعناية قبل أن تتبناه كخيار حصري. وإليكم كيفية التفكير حول الاستراتيجية المناسبة لأي ظرف معين.
خيارات المزعزع
تتضمن الطريقة المناسبة للتعامل مع المشكلة تقسيم الخيارات إلى أربع فئات: التكنولوجيا، والعملاء، والتنظيم، والمنافسة. فالزعزعة تتطلّب توجهات خاصةً تجاه كل فئة من هذه الفئات، كما استكشفتُ في العمل مع الزملاء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT.1J. Gans, E.L. Scott, and S. Stern, “Strategy for Start-Ups,” Harvard Business Review 96 (May-June 2018): 44-51; and J.S. Gans, S. Stern, and J. Wu, “Foundations of Entrepreneurial Strategy,” Strategic Management Journal 40, no. 5 (May 2019): 736-756.
أولاً، فكروا في خيار التكنولوجيا. لقد ميز كلايتون كريستنسن لفترة طويلة بين التكنولوجيات المزعزعة (التي يتدهور أداؤها اليوم وفق المقاييس التي يهتم بها أغلب المستهلكين) وبين التكنولوجيات المستديمة (وهي التي لا يتدهور أداؤها). وتسعى أغلب الشركات إلى تكنولوجيات مستديمة (مثل التحسينات المتواضعة في ترقية الآي فون iPhone) كوسيلة للحفاظ على العملاء الحاليين والحفاظ على هامش ربح صحي. ويتلخص السبب وراء اختيار تكنولوجيا «أسوأ» في مستهل الأمر في قدرتها على التفوق على التكنولوجيات القديمة في المستقبل القريب نسبياً. وإضافة إلى ذلك، تميل التكنولوجيات المزعزعة إلى أن تكون تكنولوجيات لا تتقن الشركات الراسخة تبنيها أو لا تريد تبنيها خشية إثارة نفور قاعدة عملائها. وبعبارة أخرى، يمثل مجرد وجود تكنولوجيات مزعزعة فرصة للشركات الناشئة.
وهذا يقودنا إلى اختيار العميل من قبل رائد أعمال مزعزع. فقد لاحظ كريستنسن أنكم إذا أردتم بيع منتج يقل أداءً عن المنتجات الحالية في بعض الأبعاد (مثل حاسوب محمول يتمتع بطاقة حوسبة أقل)، ستحتاجون إلى إيجاد طريقة للبيع بسعر أقل للتعويض عن انخفاض الأداء، أو إيجاد مجموعة من العملاء الذين لا يهتمون لهذا الأداء مقارنة ببعض الميزات الأخرى (مثلاً، العمر الأطول للبطارية). وسبب هذا الأمر معاناةً لويبفان. فقد دخلت الشركة في أعمال البقالة العامة على أمل تلبية احتياجات العملاء كلها بدلاً من البحث عن قاعدة أكثر استهدافاً يمكن من خلالها بناء أعمالها للبيع بالتجزئة عبر الإنترنت.
وسيكرس العملاء الراغبين في أسعار متدنية رأس جسر للأعمال. ومع ذلك، لا يمكن أن تتوقف الشركة الناشئة عند هذا الحد، كما أكد إيريك ريس Eric Ries.2E. Ries, “The Lean Startup: How Today’s Entrepreneurs Use Continuous Innovation to Create Radically Successful Businesses” (New York: Currency, 2011). إذ يجب أن تتحرك بسرعة إلى أعلى منحنى أداء التكنولوجيا لتستفيد من إمكانيتها المزعزعة وتنمو. وهذا يتطلّب تجريباً سريعاً موجهاً نحو السوق وتحسيناً سريعاً لأداء المنتجات، وهو ما لن يحافظ فقط على العملاء الراغبين في أسعار متدنية والمكتسبين حديثاً، بل سيسمح لها أيضاً بالمنافسة على العملاء من التيار السائد. ومن بين الأمثلة الحديثة على ذلك موقع سويلنت دوت كوم Soylent.com، الذي ينتج منتجات غذائية «تلبي حاجة غذائية صرفة». وجربت الشركة نكهات مختلفة إضافة إلى أنواع من المنتجات استجابة لملاحظات السوق.
ويتطلّب استهداف العملاء في التيار السائد بدوره اختيار مؤسسة مصممة خصيصاً لتناسب النشاط الكبير واستجابة الأسواق والاستثمار في القدرات مما سيسمح بنمو كهذا. وقامت أمازون بذلك في شكل مذهل، منذ البداية — إذ جمعت معلومات عن العملاء وطورت القدرات لتوقع الطلب على ملايين المنتجات المختلفة.
والخيار الأخير الذي يجب التفكير فيه هو ما تريدون التنافس معه. فهل تسير شركتكم في مسار مزعزع من خلال تبني تكنولوجيا على مسار متميز عن الشركات الرائدة في السوق؟ وهل تستهدفون العملاء الذين تعتقدون أنهم لا ينالون خدمات جيدة؟ وهل طوّرتم قدرات تنظيمية كافية للاستفادة من هذه الفرصة؟ إذا كان الأمر كذلك، فلن يكون من المستغرب أن تختاروا منافسة مباشرة مع الشركات ذات المنتجات والشركات ذات المنتجات الراسخة (الموجودة والناجحة بالفعل) Incumbents في مقابل التعاون معها. وكان بمقدور ويبفان أن تختار إدراج نفسها إلى سلسلة القيمة الموجودة الخاصة بمتاجر البقالة لكنها لم تفعل. وكان بوسع أمازون أن تتعامل مباشرة مع بائعي الكتب الحاليين لكنها لم تفعل. وفي كل حالة صارت الشركات الموجودة هي المستهدفة في نهاية المطاف.
تتضمن الطريقة المناسبة للتعامل مع المشكلة تقسيم الخيارات إلى أربع فئات: التكنولوجيا، والعملاء، والتنظيم، والمنافسة.
لكن إذا لم تكن كل هذه الظروف واضحة — ومرغوب فيها— يستطيع رائد الأعمال أن يختار مسارات بديلة. ويتمثل أحد الخيارات بأن يصبح رائد أعمال سلسلة القيمة Value chain entrepreneur، فيتشارك مع الشركات الرائدة الحالية في السوق. وقد تقوم شركة ناشئة بذلك من خلال إدراج نفسها في سلسلة القيمة فتصبح إما عميلاً لتلك الشركات الموجودة أو مورداً لها. واختارت بيبود أن تكون في الواقع عميلة لشركة ستوب أند شوب. لكنها لم تكن علاقة خالية من التحكم. فقد وضعت الشركات اتفاقيات سمحت لبيبود بإدارة خدماتها عبر الإنترنت في شكل أكثر سلاسة ومنح العملاء إمكانية الوصول إلى المنتجات والأسعار الخاصة بمحال السوبرماركت الموجودة. وبنت فوكسكون تكنولوجي Foxconn Technology المصنّعة للإلكترونيات ومقرها تايوان أعمالها كمورد للمكونات وجمعت المنتجات لصالح أبل، وسامسونغ Samsung، وغيرهما. ولكن فوكسكون ليست على تماس مع المستهلكين؛ إنها تعمل في شكل وثيق مع المصممين لضمان قدرتها على أن تسلم بكفاءة منتجات عالية الجودة.
كيفية الاختيار
يتمتع أي رائد أعمال ذي بصيرة في كيفية استغلال فرصة تكنولوجية جديدة بالعديد من الخيارات فيما يتصل بأي استراتيجية ينبغي له أن يستخدمها لجلب هذا التبصر إلى السوق. وبوسع رواد الأعمال أن يستغلوا الفرص التكنولوجية عبر مسارات مختلفة، اعتماداً على قراراتهم في شأن الخيارات الاستراتيجية الأربعة الحاسمة. ولكن هذا لا يعني أن خيارات كهذه واضحة المعالم دائماً. والواقع ألا مفر من وجود قدر كبير من عدم اليقين في شأن الاستراتيجية الأفضل، وفي شأن ما إذا كانت هناك استراتيجية واحدة ستكون الأفضل في النهاية.
إذن، فكيف لرائد أعمال أن يقرر ما إذا كانت الزعزعة هي المسار الأكثر ملاءمة؟
لكشف مجموعة من الافتراضات التي قد تقود النجاح الخاص باستراتيجية مزعزعة محددة، أقترح أن يلقي رواد الأعمال أنفسهم في خضم عملية عدائية. أولاً، يتعين عليهم أن يحددوا الخطوط العريضة للخيارات المتعلقة بالتكنولوجيا والعملاء والتنظيم التي قد يحتاجون إلى اتخاذها من أجل بناء شركة جديدة قادرة على التعامل مع الشركات الرائدة الحالية في السوق. وعند القيام بذلك، عليهم أن يسألوا أنفسهم: تحت أي شروط سيولّد هذا المسار قيمة Create value لعملاء محددين؟ وفي ظل أي ظروف قد تكون الاستجابة التنافسية للشركة ذات المنتجات الراسخة خافتة أو متأخرة؟ فالشركة ذات المنتجات الراسخة التي تتباطأ في الاستجابة تُعَد مثالية لمزعزع محتمل؛ والشركة ذات المنتجات الراسخة التي تتمتع بقاعدة موارد عميقة ورد سريع على تهديد جديد قد تقضي بسرعة على أي مُزعزِع محتمل.
وبعد وضع الخطوط العريضة لخطة أعمال مزعزعة، ينبغي عليكم تنحيتها جانباً ووضع خطة بديلة لسلسلة القيمة. فهل هناك مسار مختلف للنجاح؟ اسألوا نفسكم: كيف يمكن لشركتكم التعاون مع الشركات الرائدة الحالية في السوق لتقديم فرصة تكنولوجية إلى السوق؟ كيف ستعمل شركتكم على إضافة قيمة إلى العملاء في سلسلة القيمة الحالية أو النظام الحالي؟ كيف يمكن لشركتكم إضافة تكنولوجيات موجودة — ربما بطريقة تقليدية؟ وهل يمكنكم بناء علاقات في المؤسسة من شأنها أن تجعلها الشريك المفضل للأعمال القائمة؟ ستحتاجون إلى بيان واضح عن كيفية إضافة منتجكم قيمة في سلاسل القيمة الموجودة والظروف التي ستكون لديكم فيها قدرة مساومة كافية للاحتفاظ ببعض هذه القيمة.
وليست النتيجة النهائية لهذه العملية خطة أعمال واحدة بل اثنتين — واحدة مزعزعة وأخرى غير مزعزعة. ثم ستكونون في وضع يمكنكم فيه الاختيار.
ما الذي سيوجه هذا الخيار؟ في بعض الحالات، قد يكون الخيار سهلاً. مثلاً، ربما لا يتمكن رائد الأعمال من الوصول إلى الموارد اللازمة لتنفيذ إحدى الخطط. أو قد تفتقر الخطة إلى التماسك — فربما لا يكون هناك مسار من مجموعة مستهدفة من عملاء رأس الجسر إلى توليد ملاحظات السوق واستغلال فرصة تكنولوجية أكثر ديناميكية. وفي هذه الحالات، يمكن التخلص من الخطة بسهولة.
وفي حالات أخرى، ربما عندما تتوفر فرص تكنولوجية قيّمة في أي من الحالتين، ستبدو كلتا الخطتين جيدة، وسيرجع الخيار إلى عوامل أخرى. فقد ينجذب الممول إلى خطة أكثر من الأخرى. أو قد تكون لرائد الأعمال علاقات موجودة مسبقاً مع شركاء في سلسلة القيمة تجعل مساراً واحداً طبيعياً أكثر. أو قد يتوافق رائد الأعمال ببساطة مع أحد المسارين أكثر من المسار الآخر. فكروا في رواد أعمال مثل ريتشارد برانسون Richard Branson الذين أرادوا تغيير الأسواق: فحتى ولو كان بوسعهم أن يختاروا مسارات أخرى، هم لم يفعلوا. ومع هذا سيكون من الأفضل لأغلب رواد الأعمال أن يحددوا خياراتهم قبل أن يختاروها.
الإعداد للتمحور
هل تمثل الزعزعة خياراً ثنائياً؟ هل يحتاج رائد الأعمال إلى معرفة ما إذا كان سيتبع ذلك المسار؟ وفي الواقع، قد يكون للخيار مكون ديناميكي: إذا تبين أن هناك افتقارا إلى استراتيجية، يمكن لرائد الأعمال أن يبدل المسارات. ويُسمَّى التحول في الاستراتيجية من الزعزعة إلى سلسلة القيمة أو العكس، من دون تغيير الفكرة الأساسية للمشروع، تمحوراً Pivot. ويتخلص أحياناً كثيرة الفارق بين تمحور ناجح واستراتيجية فاشلة تتمسك بالخطة الخاطئة لفترة أطول مما ينبغي بمدى حسن استعداد تلك الشركة لخطة بديلة محتملة.
وقد تحدث عمليات التمحور في أي اتجاه. مثلاً، وثّق الباحث في مجال الاستراتيجية والابتكار مات ماركس Matt Marx وعالِم الإدارة ديفيد هسو David Hsu3M. Marx and D.H. Hsu, “Strategic Switchbacks: Dynamic Commercialization Strategies for Technology Entrepreneurs,” Research Policy 44, no. 10 (2015): 1815-1826. حالة جينينتيك Genentech، وهي شركة ناشئة للتكنولوجيا الحيوية تأسست بهدف التعاون مع شركات الأدوية الموجودة والحصول على تراخيص الأبحاث الدوائية لصالحها. وفعلت جينينتيك ذلك مع تقنياتها المتطورة لإنتاج الأنسولين الاصطناعي، الذي منحت ترخيصاً به إلى إيلي ليلي وشركاه Eli Lilly and Co. ومع ذلك، كانت لديها أيضاً تطلعات لتصنيع منتجاتها الصيدلانية الخاصة. وانطوى الأمر على اكتساب مهارات تنظيمية وقدرات تسويقية رئيسية. ومن خلال ترخيص المنتجات والتعلم من المرخص لهم، تمكنت جينينتيك من التمحور إلى ما هو أبعد من تطوير الملكية الفكرية في غضون عقد من تأسيسها.
وفي حالات أخرى، فقد تتمحور الشركات الناشئة من استراتيجية للزعزعة إلى استراتيجية لسلسلة القيمة. وفي أبحاث مع ماركس وهسو،4M. Marx, J.S. Gans, and D.H. Hsu, “Dynamic Commercialization Strategies for Disruptive Technologies: Evidence from the Speech Recognition Industry,” Management Science 60, no. 12 (2014): 3103-3123. تفحصتُ دخول شركات ناشئة في صناعة برمجيات التعرف على الصوت Voice recognition software على مدى 50 سنة تقريباً. ووجدنا أن عدداً من الشركات الناشئة دخلت وتنافست في شكل مباشر مع الشركات الرائدة في السوق، ربما على مسار للزعزعة، لكنها تمحورت لتصبح شريكة للشركات الراسخة.
ومن المفارقات أننا وجدنا أن الشركات الناشئة التي كانت تتمحور بعيداً عن الزعزعة كانت تفعل ذلك على نحو يكاد يكون ثابتاً لأن التكنولوجيات التي طورتها كانت في واقع الأمر مزعزعة. فلماذا تدفع الزعزعة الناجحة أي شخص إلى الابتعاد عن استراتيجية مزعزعة والاقتراب من فرصة خاصة بسلسلة للقيمة؟ قد توفر زعزعة تكنولوجية مساراً استراتيجياً واضحاً للشركات الناشئة، لكن الشركة الراسخة قد ترى هذا التهديد وتختار التعاون بدلاً من المنافسة مع رائد الأعمال. وقد ينتهي الأمر بهذا الوضع بدوره إلى وضع مربح للجانبين. ولن يكون لزاماً على الشركات الناشئة أن تمول معركة شاملة مع الشركة الراسخة، لكنها قد تجد أرضية مشتركة للتعاون في حين تغري العملاء الجدد بالتكنولوجيا المُحسَّنة. وهذا يعني أن رواد الأعمال حتى ولو انطلقوا على مسار مزعزع، فقد تُحبَط أي زعزعة إذ ترى الشركات الراسخة أن التعاون يصب في مصلحتها. ومن خلال تعديل استجابتها للاستفادة من الداخل الجديد، يصبح بوسع الشركات الموجودة أن توجه الأثر المزعزع بعيداً عن أعمالها.
ومن الممكن لعمليات التمحور أن تكون مخططاً لها (قد يتنافس رائد أعمال في البداية لإظهار قيمة التعاون للشركات الموجودة) أو غير مخطط له (إذا لم تكن الاستراتيجية المزعزعة فاعلة وتضمن التغيير). وفي كلتا الحالتين، تعني إمكانية التمحور أن أي خيار أولي لا يمكن اعتباره قراراً نهائياً بل فرصة تعلم مستمرة محتملة. فقط تأكدوا من أنكم فكرتم في سيناريو التمحور الخاص بكم بتفصيل كافٍ لمعرفة الوقت المناسب لتنفيذه.
المستقبل
تشكل زعزعة أي صناعة ظاهرة معقدة. وقد تكون الشركات الرائدة في السوق عُرضة للخطر، لكن الأمر يتطلّب من الآخرين أن يجعلوا الزعزعة تحدث. وهذا ليس استنتاجاً مفروغاً منه. فهناك بديل قابل للتطبيق — نهج سلسلة القيمة Value chain approach.
ويتوقف مستقبل الزعزعة على الأرجح ليس فقط على الفرص التكنولوجية وخصائصها، بل أيضاً على أدوات التجريب Tools for experimentation والفهم اللازم للسماح لخيارات رواد الأعمال في مجالات التكنولوجيا والعملاء والتنظيم والمنافسة بالتلاحم في كل متماسك. إن الزعزعة خيار، ولكن الاختيار متاح.
المراجع
↑1 | J. Gans, E.L. Scott, and S. Stern, “Strategy for Start-Ups,” Harvard Business Review 96 (May-June 2018): 44-51; and J.S. Gans, S. Stern, and J. Wu, “Foundations of Entrepreneurial Strategy,” Strategic Management Journal 40, no. 5 (May 2019): 736-756. |
---|---|
↑2 | E. Ries, “The Lean Startup: How Today’s Entrepreneurs Use Continuous Innovation to Create Radically Successful Businesses” (New York: Currency, 2011). |
↑3 | M. Marx and D.H. Hsu, “Strategic Switchbacks: Dynamic Commercialization Strategies for Technology Entrepreneurs,” Research Policy 44, no. 10 (2015): 1815-1826. |
↑4 | M. Marx, J.S. Gans, and D.H. Hsu, “Dynamic Commercialization Strategies for Disruptive Technologies: Evidence from the Speech Recognition Industry,” Management Science 60, no. 12 (2014): 3103-3123. |